تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

المأزق، أو تعليق السّؤال الأنطولوجيّ، إذ لا فائدة ترجى من الفهم، مادامت الفيزياء الكوانطيّة تشتغل، فما ينبغي الانشغال به هو الحسابات. والسّؤال الّذي يطرح هو: هل يمكن بالفعل التّخلّي عن المسألة الأنطولوجيّة والاقتصار على الاشتغال الجيّد بالحسابات العلميّة وأقيستها؟ أمّا ترجمة الاكتشافات العلميّة في لغة التّداول الجارية فتمثّل مأزقا من نوع آخر. فمن الممكن أن نؤكّد أنّ هذه المشاكل لا تنجم إلاّ حين نبحث عن ترجمة نتائج الفيزياء الكوانطيّة في لغة الحسّ المشترك وعباراته الّتي نستعملها عند الحديث عن الواقع. إنّ رتشارد فينمان Richard Feynman نفسه قد أكّد في تصريح له شهير أنْ "لا أحد يفهم الفيزياء الكوانطيّة" مشيرا بذلك إلى أنّه قد بات من غير الممكن ترجمة صرح العلم النّظري الرّياضي في اللّغة وباللّغة الّتي نستعملها في الحياة اليوميّة عند الحديث عن الواقع (15).

ورغم أنّ نظريّة الإعجاز العلميّ للقرآن أو نظريّة التّفسير العلمي للقرآن تشبه "الثّقافة الثّالثة" في محاولتها ترجمة الاكتشافات العلميّة بلغة التّداول اليوميّ، وصياغة تلك المحاولة في خطاب دينيّ، هو خطاب التّفسير القرآنيّ، إلاّ أنّ سياقها الثّقافي مختلف اختلافا جذريّا عن سياق "الثّقافة الثّالثة" وأهدافها ورهاناتها. فخطاب الإعجاز العلميّ للقرآن أو خطاب التّفسير العلمي للقرآن إنّما هو امتداد للخطابات المأزومة النّاتجة من "صدمة الحداثة". فمنذ حملة نابليون بونابرت العسكريّة والعلميّة على مصر سنة 1798 ظلّ الفكر العربي الإسلاميّ موسوما بهذا اللّقاء الصّادم العنيف مع الواقع الجديد. وهو واقع قد تشخّص في صورة الآخر الأجنبيّ (الأوروبيّ)، هذا الأجنبيّ الّذي فرض نفسه بقسوة طلقات المدافع وقساوة رصاص المطابع، وحمل المفكّرين العرب والمسلمين المعاصرين على أن يعيدوا التّفكير ويراجعوا طرائقهم المعهودة في التّفكير. ومن آثار هذه الصّدمة عجز هذا الفكر العربي الإسلاميّ على تسمية هذا الواقع الجديد كما كان يسمّى في الكون الرّمزيّ الّذي سبق حملة نابليون. فـ"صدمة الحداثة" هي بالضّبط استحالة استخدام الإمكانات السّرديّة والرّمزيّة المتوفّرة سابقا لترميز الواقع الجديد وتسمية "الحداثة" بأسمائها. وليس الإعجاز العلميّ للقرآن أو التّفسير العلمي للقرآن سوى شكل من أشكال الخطاب الّذي يشهد على هذا اللّقاء الصّادم العنيف المباشر بـ"الحداثة" دون وساطة رمزيّة تخفّف من وقع تلك الصّدمة (16). ذلك أنّ واقع "الحداثة" الجديد الّذي فرضه الأجنبيّ (الأوروبيّ) بأنظمته وتقنيته هو الواقع عينه الّذي أعاد العلم الحديث تشييده على نحو جذريّ، بعد أن تخلّص من كلّ علاقة طبيعيّة بالحقيقة، ومن كلّ نزعة إنسيّة أو ذاتيّة، دون أن يحفل بالأهداف الأخلاقيّة أو الجماعيّة الّتي يفترض أن تحدّ من اندفاع المعرفة العلمية وجموحها.

ولمّا كان العجز عن تسمية الحداثة بأسمائها من جنس العجز العلميّ، الّذي أعرب عنه الجبرتي ومن أتى بعده من مفكّري النّهضة، لمّا اصطدموا بظاهرة عجيبة لا عهد لهم بها هي "التّقنية"، أفلا يكون الإعجاز العلميّ للقرآن أو التّفسير العلمي للقرآن بوصفه ضربا من الخطابات المأزومة شكلا جديدا من "الدّهشة اللاّهوتيّة" الّتي أعربت عنها كتابات "مثقّفين من أصول إسلاميّة مثل الأفغاني ومحمد عبده وراهنا طه عبد الرّحمن" (17)؟

إنّ استمرار "الدّهشة اللاّهوتيّة" إلى يومنا هذا في خطابات المثقّفين الإسلاميّين أمر فيه نظر، لأنّ ما وصف على أنّه "دهشة لاهوتيّة" يمكن أن يؤوّل على أنّه صراع خطابات لا نزاع تآويل. ولمّا كانت الخطابات في تصوّر جاك لاكان Jacques Lacan أربعة أصناف (18)، هي في الآن نفسه أربعة مواقع يتّخذها العون المتكلّم، ويتضمّن كلّ واحد منها صيغة مخصوصة من الذّاتيّة، نقتصر في هذا المقام على اثنتين منها. ففي خطاب السّيّد discours du Maître، تلتزم الذّات كلّيّا بخطابها. فالسّيّد هو كلامه، بحيث أنّ لقوله قوّة إنجازيّة أو نجاعة رمزيّة مباشرة. وأنموذج هذا الخطاب هو الخطاب السّياسيّ أو الدّينيّ. أمّا خطاب الجامعة (العلم) فهو خطاب غير ملتزم لأنّه يمثّل موقع المعاين الّذي يتوارى خلف خطابه باسم العلم المحايد والقوانين الموضوعيّة. وعلى أساس هذا التّعريف المعتصر

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير