ومنها مسايرة طبيعة الحركة العلمية , فقد يؤلف العالم المختصر لهذا الغرض فالطوفي مثلاً حينما اختصر (روضة الناظر) للموفق ابن قدامة في كتابه (البلبل) كان مجاراة للحركة العلمية مع أنه لم يكن مقتنعاً بأمور كثيرة في (الروضة) منها طريقته في الترتيب , ولكن لأن الحركة العلمية مهتمة بهذه النوع من التأليف اختصر كتاب (الروضة) لشهرته بين كتب الأصول عند الحنابلة [انظر مقدمة الشيخ عبد العال عطوة لشرح مختصر الروضة للطوفي 1/ 13].
ومنها إظهار البراعة في التأليف , ومعروف أن اختصار الكلام أصعب من الإسهاب فيه فيتبارى المؤلفون في وضع المختصرات القليلة الألفاظ الكثيرة المعاني وكلما كان أقدر على الاختصار نال هو ومختصره المكانة العالية , وعندما اختصر ابن الحاجب مختصرا الإحكام للآمدي في كتابه (منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل) تعجب العلماء وطلاب العلم من براعته الفائقة في الاختصار مع الاحتفاظ بالمعنى , فلما بلغه تعجبهم قال سأزيدهم عجباً , فاختصره في مختصره الشهير جداً في أصول الفقه المسمى (مختصر المنتهى) قال ابن كثير: وأصبح كتاب الناس شرقاً وغرباً وقد من الله علي بحفظه.وكان لتوقف الاجتهاد بما يسميه البعض قفل باب الاجتهاد وانتشار المذاهب وطغيانها وميل المتأخرين إلى المحافظة على علوم المتقدمين والمنافسة في ذلك وإغفال الإبداع أثر في وضع التأليف المختصرة التي تحفظ علوم السابقين.
وقد اختلفت المواقف حول المختصرات ومدى صلاحيتها في المناهج التعليمية وأثرها على التفكير سلباً أو إيجاباً.
فابن خلدون عابها بشدة في مقدمته فقال: (ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق والإنحاء في العلوم يولعون بها ويدونون منها برنامجاً مختصراً في كل علم يشتمل على حصر مسائله وأدلتها باختصار في الألفاظ وحشو القليل منه بالمعاني الكثيرة في ذلك الفن , وصار ذلك مخلاً بالبلاغة وعسراً على الفهم , وربما عمدوا إلى الأمهات المطولة في الفنون للتفسير والبيان فاختصروها تقريباً للحفظ كما فعله ابن الحاجب في الفقه وأصول الفقه وابن مالك في العربية والخونجي في المنطق وأمثالهم وهو فساد في التعليم وفيه إخلال بالتحصيل , وذلك لأن فيه تخليطاً على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه وهو لم يستعد لقبولها بعد وهو من سوء التعليم. كما أن فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ المختصرات تجدها لأجل ذلك صعبة عويصة , فيقطع في فهمها خطاً صالحا من الوقت, ثم بعد ذلك فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات إذا تم على سداده ولم تعقبه آفة فهي فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة بكثرة ما يقع فيها من التكرار والإحالة المفيدين لحصول الملكة التامة , وإذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقلته كشأن هذه الموضوعات المختصرة , فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين فأركبوهم صعباً يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة وتمكنها) [مقدمة ابن خلدون ص 443].ونجد ذم المختصرات كذلك في (المعيار المعرب 2/ 479) للونشريسي حيث يقول: (ولقد استباح الناس النقل من المختصرات الغريبة أربابها ونسبوا ظواهر ما فيها إلى أمهاتها. وقد نبه عبد الحق في تعقيب التهذيب على ما يمنع من ذلك لو كان من يسمع , وذيلت كتابه بمثل عدد مسائله أجمع , ثم تركوا الرواية فكثر التصحيف وانقطعت سلسلة الاتصال , فصارت الفتاوى تنفذ من كتب لا يدري ما زيد فيها مما نقص منها لعدم تصحيحها وقلة الكشف عنها ... ثم كان أهل هذه المائة عن حال من قبلهم من حفظ المختصرات وشق الشروح والأصول الكبار , فاقتصروا على حفظ ما قل لفظه ونزر خطه , وأفنوا أعمارهم في حل لغوزه وفهم رموزه ولم يصلوا إلى رد ما فيه إلى أصوله بالتصحيح , فضلاً عن معرفة الضعيف من ذلك والصحيح , بل هو حل مقفل , وفهم أمر مجمل , ومطالعة تقييدات زعموا أنها تستنهض النفوس , فبينا نحن نستكثر العدول عن كتب الأئمة إلى كتب الشيوخ , أبيحت لنا تقييدات الجهلة بل مسودات المسوخ).وإذا أتينا لعصرنا وجدنا عدداً من العلماء والباحثين ذم المختصرات كأحمد أمين [انظر: صخر ألإسلام 4/ 214]، والطاهر بن عاشور والشيخ علي الطنطاوي.
¥