وهو كلام مسلم لكنه لا ينفي الاستشهاد بالآية في غير ما نزلت فيه، فلا أظنه يخفى على فضيلته أن هنالك فرقا كبيرا بين مقام التفسير للآية وبين مقام الاستشهاد بها أو بجزء منها، فالسياق متحتم في التفسير لكونه بيانا للمعنى المراد في الآية، وغير متحتم في الاستدلال والاستباط، فقد يستدل العالم بجزء ءاية على معنى من المعاني غير ما أفادته الآية كلها في سياقها الذي سيقت له بشرط صحة الاستدلال على المعنى بأي طريق من الطرق المعتبرة، وعدم مصادمته للمعنى السياقي
وإلا فماذا نقول في تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا) بعد حثه لعلي رضي الله عنه على قيام الليل ومحاورة علي رضي الله عنه في ذلك.
وماذا نقول فيما ورد من قيامه طوال الليل يردد قوله تعالى (إن تعذبهم فإنهم عبادك) الآية، ويبكي، مع أنها نازلة في شأن تعذيب الله للنصارى الذين جعلوا عيسى إلها من دون الله.
وماذا نقول في قول سعد بن أبي وقاص في قوله تعالى (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ) إلى آخر الآية، أنهم الحرورية.
وماذا نقول في قول عمر بن الخطاب: إني أخاف أن أكون كالذين قال الله تعالى لهم وقَرَّعهم: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) مع أنها في الكلام عن حال الكفار يوم القيامة حال عرضهم على النار.
هذا إضافة إلى أن المثال المذكور لم يخرج عن سياقه بتفسيره بالغناء ولم يفسر ابن مسعود الآية بمعزل عن سياقها، وما أبعد الشبه بينها وبين الأمثلة المذكورة، بل تفسير ابن مسعود دائر مع السياق، لكن الإشكال في ذهن الكاتب وتصوره، وإلا فليذكر لنا الآن أين لهو الحديث الذي يشترى ولا يضل عن سبيل الله ولا يملأ القلب رجسا ونجسا، وإن وجد فما هي نسبته حتى تقوم الدنيا عليه ولا تقعد، ومن قال بحرمته؟
3. دعوى التلازم بين شدة الحرمة وأسبقيتها: تعجب الكاتب الفاضل من كون الآيات التي يستفاد منها تحريم الغناء مكية وكون آيات تحريم الخمر وغيره من الكبائر مدنية، ثم قال: فتأمل معي يا رعاك الله، كيف يحرم الله تعالى المعازف في مكة، ويترك تحريم الخمر التي هي أم الخبائث إلى ما بعد الهجرة بزمن طويل، ويتدرج في تحريمها، إلى وقت نزول سورة المائدة؟ اهـ.
والجواب عن هذا يسير سهل وهو: من وجهين:
الأول: أنه لا تلازم بين شدة الحرمة وبين أسبقية التحريم فليس بلازم أن يتقدم تحريم الأشد على تحريم الأخف.
الثاني: مراعاة الأحوال التي أوجبت تقديم الأخف حرمة على ما هو أشد حرمة أمر لا بد منه في فهم تلك القضية، فقد يكتنف الأخف حرمة في وقت معين ما يجعل خطره أشد وأعظم من الأثقل حرمة، فيكون ذلك داعيا إلى تقديم تحريمه، وهذا هو الحاصل في قضيتنا حيث كان الغناء ساعتها وسيلة من أعظم الوسائل التي يستعملها المشركون في الصد عن القرآن وصرف الناس عنه، ولم يكن الخمر تستخدم في الصد عن القرآن ومحاربته كما أنه لا يلزم ساعة ذكر المحرمات مقترنة أن يعتمد في التحريم على ما تقدم في الزمان ويستند في تحريم المقارنات على مجرد اقترانها بما سبق تحريمه زمنا.
4. دعوى عدم الإقرار بوقوع الإشكال لابن عباس وابن مسعود في تفسير الآية، قال الكاتب الفاضل: ... ثم لا يقرون لك بأن الإشكال قد يقع فيه حتى حبر الأمة وترجمان القرآن، رضي الله عنه.اهـ
افترض الكاتب وجود إشكال على تفسير ابن عباس وابن مسعود للهو الحديث بالغناء، ولا ندري أين هو هذا الإشكال؟ ولماذا لم يكتشف هذا الإشكال ويناقش ويحرر في عصر الصحابة أو من بعدهم، خاصة وأن الصاحبيين اللذين صدر هذا القول عنهما هما أشهر من تعرض لتفسير القرآن وكان لهم تلاميذ كثر ينقلون أقوالهم.
ونحن لا نرفض وقوع إشكالات في تفسير الصحابة، لكن كيف تحدد وكيف يتعامل معها ومتى تنتقد، وما وجهة انتقادها؟ كل هذا مما يحتاج إلى إجابة ممن زعم وجود الإشكال.
وتأخُّر هذا الاكتشاف إلى هذا الزمان أكبر دليل على بطلانه وفساده
5. دعواه خصوصية المعنى بالكفار وعدم دخول المسلمين فيه، ?قال الكاتب الفاضل: ولا يمكن حمل الآية على المسلم أبدا كما نص على ذلك قتادة في التفسير. اهـ.
والجواب عن ذلك فيما يلي:
¥