لكن علماء الحديث وأهل الجرح والتعديل قد اختلفوا في قبول رواية ابن لهيعة. فمنهم من قبل روايته في الاعتبار إذا تابعه عليها غيره من الثقات؛ فله في صحيح مسلم بعض شيء مقرون [66] .. قال ابن حجر: "قال حنبل عن أحمد: ما حديث ابن لهيعة بحجة، وإني لأكتب كثيرا مما أكتب أعتبر به، وهو يقوي بعضه بعضا ...
وقال ابن خزيمة في صحيحه: وابن لهيعة لست ممن أُخْرِجُ حديثه في هذا الكتاب إذا انفرد به، وإنما أخرجته لأن معه جابر بن إسماعيل ...
وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زُرْعة عن الإفريقي وابن لهيعة: أيهما أحب إليك؟ فقالا جميعا: ضعيفان، وابن لهيعة أمره مضطرب، يُكْتَبُ حديثُه على الاعتبار" [67].
ومن العلماء من قبل حديثه برواية العبادلة عنه، وهم: عبد الله بن المبارك، وعبد الله بن وهب، وعبد الله بن يزيد المُقْرِئ. ويبدو لي أن هؤلاء العبادلة قد سمعوا عنه قبل احتراق كتبه، أو هم المدققون في الرواية عنه في ترجيح من قبل حديث ابن لهيعة بروايتهم .. قال ابن حجر: "قال نعيم بن حماد: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: لا أعتد بشيء سمعته من حديث ابن لهيعة؛ إلا سماع ابن المبارك ونحوه ...
وقال عبد الغني بن سعيد: إذا روى العبادلة عن ابن لهيعة؛ فهو صحيح: ابن المبارك، وابن وهب، والمُقْرِئ. وذكر الساجي وغيره مثلَه" [68].
ومن العلماء من رفض الاحتجاج بحديث ابن لهيعة على الإطلاق .. قال ابن حجر: "قال ابن معين: ضعيف لا يحتج بحديثه، كان من شاء يقول له: حدثنا ...
قال عبد الرحمن: قلت لأبي (أي النسائي): إذا كان من يروي عن ابن لهيعة مثل ابن المبارك؛ فابن لهيعة يحتج به؟ قال: لا ...
وقال الجوزجاني: لا يوقف على حديثه، ولا ينبغي أن يحتج به، ولا يغتر بروايته" [69].
وذكر الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي (ت 507هـ) بإسناد له إلى الإمام الحافظ أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني (ت 385هـ) قال: سمعت أبا طالب الحافظ يقول: من يصبر على ما يصبر عليه أبو عبد الرحمن النسائي، كان عنده حديث ابن لهيعة تَرْجَمةً ترجَمةً فما حدث بها، وكان لا يرى أن يحدث بحديث ابن لهيعة [70].
ومهما يكن أمر ابن لهيعة؛ فإن حديثه عن أبي يونس غير مقبول على أحد هذه الوجوه؛ إذ لم يتابعه عليه ثقة في حديث ثابت، والمحفوظ الصحيح: "خلق الله آدم على صورته". ولم يروِ هذا الحديث عن ابن لهيعة أحد العبادلة ممن يقبل حديثه بروايتهم عنه عند بعض المحدثين. والرأي الثالث يسقط حديثه ولا يحتج به على الإطلاق.
وما قلناه في رواية ابن أبي عاصم يقال في رواية أبي الحسن الدارقطني، ونزيد عليه أن الأعرج قد روى عنه من هو أوثق من ابن لهيعة؛ فسبق أن نقلت رواية أبي الزناد عن الأعرج من مسند الإمام أحمد وغيره من طرق صحيحة.
وأبو الزناد عبد الله بن ذكوان ثقة فقيه كما قال ابن حجر [71]، وهو أوثق من ابن لهيعة على وجه العموم، وأوثق منه ومن غيره في أسانيد أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ من طريق الأعرج خاصة .. نقل ابن حجر قول الإمام البخاري: "أصح أسانيد أبي هريرة: أبو الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة" [72].
فلو قلنا: إن ابن لهيعة على مخالفته في هذا الحديث "صدوق" وفق اصطلاح ابن حجر في "تقريب التهذيب" وحكمه عليه [73]؛ فحديثه "شاذ" خالف فيه من هو أوثق منه. وإذا قلنا: إنه ضعيف لا يحتج به؛ فحديثه "منكر" خالف فيه الثقة. وسواء كان هذا الحديث شاذا أو منكرا؛ فقد سقط عن رتبة الصحيح، ونزل عن درجة الحجاج والإثبات. ومثل هذا لا يصلح حجة في الأعمال؛ بله أن يكوم دليلا في أبواب العقائد والإيمان.
أما المروي عن ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ مما اشتمل على ذكر "الصورة"؛ففيه إضافتها إلى ضمير الغائب المفرد بلفظ "على صورته". وهو المحفوظ الثابت من طريق أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ في تعليل النهي عن ضرب الوجه وتقبيحه، وفيه إضافتها إلى الله ــ جل وعلا ــ بلفظ "على صورة الرحمن". وأصل هذا اللفظ الأخير رواية حبيب بن أبي ثابت عن عطاء بن أبي رباح. يُرْوَى مُرسلا من طريق سفيان الثوري، ويُرْوَى متصلا عن ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ مرفوعا من طريق الأعمش. وقد جاء في مرويات هذا الأصل أيضا لفظ "على صورته" من طريق الأعمش، وكامل بن العلاء، كلاهما عن حبيب، عن عطاء، عن ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ مرفوعا ..
¥