و بالإضافة إلى ذلك فإنا نعتقد أن من قال بهذا القول من العلماء المشار إليهم
فهو مأجور على خطئه، للحديث المعروف، لأنهم قصدوا الحق فأخطؤوه، و أما من
وقف من أتباعهم على هذه الاحاديث التي ذكرنا، ثم أصر على تقليدهم على خطأهم،
و أعرض عن اتباع الأحاديث المذكورة فهو - و لا شك - على ضلال مبين، و هو داخل
في وعيد هذه الأحاديث التي خرجناها و لا يفيده شيئا تسميته لما يشرب بغير اسمه
مثل الطلاء، و النبيذ، أو (الويسكى) أو (الكونياك) و غير ذلك من الأسماء
التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث الكريمة.
و صدق الله العظيم إذ يقول: (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم و آبائكم ما أنزل
الله بها من سلطان).
ثانيا: تحريم آلات العزف و الطرب، و دلالة الحديث على ذلك من وجوه:
أ - قوله: " يستحلون " فإنه صريح بأن المذكورات و منها المعازف هي في الشرع
محرمة، فيستحلها أولئك القوم.
ب - قرن (المعازف) مع المقطوع حرمته: الزنا و الخمر، و لو لم تكن محرمة ما
قرنها معها إن شاء الله تعالى.
و قد جاءت أحاديث كثيرة بعضها صحيح في تحريم أنواع من آلات العزف التي كانت
معروفة يومئذ، كالطبل و القنين و هو العود و غيرها، و لم يأت ما يخالف ذلك
أو يخصه، اللهم إلا الدف في النكاح و العيد، فإنه مباح على تفصيل مذكور في
الفقه، و قد ذكرته في ردي على ابن حزم. و لذلك اتفقت المذاهب الأربعة على
تحريم آلات الطرب كلها، و استثنى بعضهم - بالإضافة إلى ما ذكرنا - الطبل في
الحرب، و ألحق به بعض المعاصرين الموسيقى العسكرية، و لا وجه لذلك ألبتة
لأمور:
الأول: أنه تخصيص لأحاديث التحريم، بدون مخصص، سوى مجرد الرأي و الاستحسان،
و هو باطل.
الثاني: أن المفروض في المسلمين في حالة الحرب أن يقبلوا بقلوبهم على ربهم،
و أن يطلبوا منه نصرهم على عدوهم، فذلك أدعى لطمأنينة نفوسهم، و أربط لقلوبهم
فاستعمال الموسيقى مما يفسد ذلك عليهم، و يصرفهم عن ذكر ربهم، قال تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا، و اذكروا الله كثيرا لعلكم
تفلحون).
الثالث: أن استعمالها من عادة الكفار (الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم
الآخر، و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله، و لا يدينون دين الحق) فلا يجوز
لنا أن نتشبه بهم، لا سيما فيما حرمه الله تبارك و تعالى علينا تحريما عاما
كالموسيقى.
و لا تغتر أيها القارئ الكريم بما قد تسمع عن بعض المشهورين اليوم من المتفقهة
من القول بإباحة آلات الطرب و الموسيقى، فإنهم - و الله - عن تقليد يفتون،
و لهوى الناس اليوم ينصرون، و من يقلدون؟ إنما يقلدون ابن حزم الذي أخطأ
فأباح آلات الطرب و الملاهي، لأن حديث أبي مالك الأشعري لم يصح عنده، و قد
عرفت أنه صحيح قطعا، و أن ابن حزم أتي من قصر باعه في علم الحديث كما سبق
بيانه، و ليت شعري ما الذي حملهم على تقليده هنا دون الأئمة الأربعة، مع أنهم
أفقه منه و أعلم و أكثر عددا و أقوى حجة؟! لو كان الحامل لهم على ذلك إنما هو
التحقيق العلمي فليس لأحد عليهم من سبيل، و معنى التحقيق العلمي كما لا يخفى
أن يتتبعوا الاحاديث كلها الواردة في هذا الباب و يدرسوا طرقها و رجالها، ثم
يحكموا عليها بما تستحق من صحة أو ضعف، ثم إذا صح عندهم شيء منها درسوها من
ناحية دلالتها و فقهها و عامها و خاصها، و ذلك كله حسبما تقتضيه قواعد علم
أصول الحديث و أصول الفقه، لو فعلوا ذلك لم يستطع أحد انتقادهم و لكانوا
مأجورين، و لكنهم - و الله - لا يصنعون شيئا من ذلك، و لكنهم إذا عرضت لهم
مسألة نظروا في أقوال العلماء فيها، ثم أخذوا ما هو الأيسر أو الأقرب إلى
تحقيق المصلحة زعموا. دون أن ينظروا موافقة ذلك للدليل من الكتاب و السنة،
و كم شرعوا للناس - بهذه الطريقة - أمورا باسم الشريعة الإسلامية، يبرأ
الإسلام منها. فإلى الله المشتكى.
فاحرص أيها المسلم على أن تعرف إسلامك من كتاب ربك، و سنة نبيك، و لا تقل:
قال فلان، فإن الحق لا يعرف بالرجال، بل اعرف الحق تعرف الرجال، و رحمة الله
على من قال:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول و بين رأي فقيه
كلا و لا جحد الصفات و نفيها حذرا من التمثيل و التشبيه
ثالثا: أن الله عز و جل قد يعاقب بعض الفساق عقوبة دنيوية مادية، فيمسخهم
فيقلب صورهم، و بالتالي عقولهم إلى بهيمة ..
قال الحافظ في " الفتح " (10/ 49) في صدد كلامه على المسخ المذكور في
الحديث:
" قال ابن العربي: يحتمل الحقيقة كما وقع للأمم السالفة، و يحتمل أن يكون
كناية عن تبدل أخلاقهم. قلت: و الأول أليق بالسياق ".
أقول: و لا مانع من الجمع بين القولين كما ذكرنا بل هو المتبادر من الحديثين.
و الله أعلم.
و قد ذهب بعض المفسرين في العصر الحاضر إلى أن مسخ بعض اليهود قردة و خنازير لم
يكن مسخا حقيقيا بدنيا، و إنما كان مسخا خلقيا! و هذا خلاف ظاهر الآيات
و الأحاديث الواردة فيهم، فلا تلتفت إلى قولهم فإنهم لا حجة لهم فيه إلا
الاستبعاد العقلي، المشعر بضعف الإيمان بالغيب. نسأل الله السلامة.
رابعا: ثم قال الحافظ:
" و في هذا الحديث وعيد شديد على من يتحيل في تحليل ما يحرم بتغيير اسمه، و أن
الحكم يدور مع العلة، و العلة في تحريم الخمر الإسكار، فمهما وجد الإسكار،
وجد التحريم، و لو لم يستمر الاسم، قال ابن العربي: هو أصل في أن الأحكام
إنما تتعلق بمعاني الأسماء لا بألقابها، ردا على من حمله على اللفظ "!