وليت الأمر وقف عند هذا؛ فإن الذي يقرأ كتاب المعترض في رد حديث أبي قتادة لايشك أن صاحبه يعتقد أن حديث أبي قتادة موضوع وليس حديثا ضعيفا فحسب، مما يدل على ذلك أنه استعمل بعض القرائن التي تستعمل في الحكم على الحديث بالوضع كالركاكة، وأيضا المخالفة لأصل من أصول الدين كما سيأتي تفصيله في محله، فهو تجاوز الأئمة المنتقدين الذين أشار إليهم؛ إذ إنهم لم يحكموا على تلك الأحاديث التي انتقدوها بالوضع في حين أن المعترض يتعامل مع حديث أبي قتادة على أساس أنه موضوع نسأل الله العافية.
الوجه الثاني: أن الانتقادات التي وجهت إلى الصحيحين لم تؤثر في صحة أحاديثهما عند العلماء؛ لما يلي:
1 - مكانة الشيخين في هذا العلم، ورسوخ أقدامهما فيه، فقولهما هو المقدم على كلام من انتقدهما قال ابن حجر: " والجواب عنه (يعني انتقاد المنتقد) على سبيل الإجمال أن نقول: لا ريب في تقديم البخاري ثم مسلم على أهل عصرهما ومن بعده من أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح والمعلل ... فإذا عرف، وتقرر أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له، أو له علة إلا أنها غير مؤثرة عندهما، فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما يكون قوله معارضا لتصحيحهما، ولا ريب في تقديمهما في ذلك على غيرهما فيندفع الاعتراض من حيث الجملة " (17).
وقد ذكر ابن حجر حديثا انتقد الدارقطني فيه البخاري، وأشار إلى اضطرابه، فتتبع ابن حجر طرق هذا الحديث بدقة حتى أثبت رجحان الطريق التي رجحها البخاري وقوتها واتصالها وتمكنها من الصحة وبعد إعلالها. ثم قال ابن حجر: " وبه يظهر نفوذ رأي البخاري وثقوب ذهنه ... فانظر إلى هذا الحديث كيف حكم عليه بالمرجوحية مثل أبي حاتم وأبي زرعة، وهما إماما التعليل، وتبعهما الترمذي، وتوقف الدارمي، وحكم عليه بالتدليس الموجب للانقطاع أبو أيوب الشاذكوني، ومع ذلك فتبين بالتنقيب والتتبع التام أن الصواب في الحكم له بالراجحية، فما ظنك بما يدعيه من هو دون هؤلاء الحفاظ النقاد من العلل، هل يسوغ أن يقبل منهم في حق مثل هذا الإمام مُسلَّما؟!. كلا والله " (18).
لله در هذا العالم! فما أحسن كلمته! وليت هذا المعترض وأمثاله ممن يطعن في أحاديث الصحيحين على هذا النحو يتأملون هذه الكلمة العظيمة ويتوقفون عندها طويلا!
2 - أن قول المنتقد يعارض ما اتفق عليه من أصحية الكتابين وتلقيهما بالقبول، فيقدم ماتم الاتفاق عليه على ما يعارضه (19). وهذا هو واقع العلماء قديما وحديثا، فهم يحتجون بأحاديث الصحيحين مطلقا، دون تأكد من أنها مما لم ينتقد على الشيخين. بل يحتجون بها ولو كانت مما انتقده المنتقد.
3 - أن الشيخين من المجتهدين في الجرح والتعديل وعلوم الحديث ومعرفة الصحيح من السقيم، وأما من جاء بعدهما وفيهم المنتقد فالغالب عليهم التقليد للشيخين ولغيرهما من أهل عصرهما، وذلك لبعد العهد عن الرواة، وعدم المعاصرة للمجرحين والمعدلين، فينقلون كلام المتقدمين ثم يستنبطون منه القول الذي يعتمدونه، فإذا انتقد المقلد قول المجتهد قدم قول المجتهد؛ لأن كلام المجتهد لا ينتقض بكلام مقلد (20).
قال الذهبي: " وهذا في زماننا يعسر نقده على المحدث؛ فإن أولئك الأئمة كالبخاري وأبي حاتم وأبي داود عاينوا الأصول، وعرفوا عللها، وأما نحن فطالت علينا الأسانيد، وفقدت العبارات المتيقنة. وبمثل هذا ونحوه دخل الدخل على الحاكم في تصرفه في المستدرك " (21).
فإذا كانت تلك هي الحال في القرن الثامن، فماذا يقال في حالنا في القرن الخامس عشر؟!
وهذه الأجوبة الثلاثة يرد بها إجمالا على كل من انتقد أحاديث الصحيحين، وأما الردود التفصيلية فقام بها كثير من أهل العلم قديما وحديثا في مؤلفات خاصة أفردوها للدفاع عن أحاديث الصحيحين ومناقشة منتقدها، وفي ثنايا مؤلفاتهم العامة ولا سيما الكتب التي خدمت الصحيحين.
قال السيوطي في ألفيته:
وانتقدوا عليهما يسيرا == فكم ترى نحوهما نصيرا (22)
¥