قال القاضي عياض: "ويجمع بينهما أن الأفضل لسائر الناس غير الحاج صومها للآثار الواردة في ذلك والأفضل للحاج فطرها؛ لاختيار النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لنفسه، وسنته ذلك لمن بعده" (95).
وقال الذهبي: " وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفطر بعرفة، وجاء النهي عن صوم يوم عرفة بعرفة في السنن بإسناد لا بأس به، وقال صلى الله عليه وسلم: " ليس من البر أن تصوموا في السفر"، والأفضل للمسافر إفطار صوم الفرض، فالنافلة أولى. فمن صام يوم عرفة بها مع علمه بالنهي وبأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما صامه بها، ولا أحد من أصحابه فيما نعلم لم يصب، والله أعلم. ولا نقطع على الله بأن الله لا يأجره، ولكن لم يكن صومه له مكفرا لسنتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك في حق المقيم لا المسافر" (96).
وقد ذكر المعترض في بحثه كثيرا من الآثار الدالة على عدم صوم يوم عرفة للحجاج، واستدل بها على عدم مشروعية صيامه لغير الحجاج أيضا، وهذا لا يسلم له؛ لأن المسألتين مختلفتان فلا يحمل حكم إحداهما على الأخرى كما سيأتي تفصيله في موضعه.
أسباب تضعيف المعترض الحديث، ومناقشتها
ذكر المعترض اثني عشر وجها ضعف بها هذا الحديث، وبين بعض هذه الوجوه تداخل، ويمكن رد بعضها إلى بعض. وفي المباحث التالية ذكر تلك الوجوه أو الشبهات التي ضعف بها المعترض الحديث ومناقشتها بالتفصيل.
المبحث الثاني:
رد إعلال الحديث بدعوى انقطاع سنده
قال المعترض في ذكر وجوه ضعف الحديث: " الوجه الأول: بأنه معلول بالانقطاع بين ابن معبد وأبي قتادة كما قال البخاري وغيره من المحدثين " (97).
وقال المعترض أيضا بعد أن ذكر أن هذا الحديث حديث معلول ضعيف: " وإسناد الحديث رجاله ثقات إلا أن عبدالله بن معبد الزماني لم يصح له سماع من أبي قتادة، فهو إسناد منقطع ضعيف. [وأبو قتادة اختلف في وفاته فقيل: مات سنة 28 هـ (98)، وهذا هو الراجح وظاهر صنيع الحافظ البخاري رحمه الله يدل على أنه مات بعد الخمسين، فقد ذكر أبا قتادة في فصل من مات بين الخمسين والستين وأما عبد الله بن معبد الزماني فلم يذكر له تاريخ ولادة، ولا تاريخ وفاة على وجه الدقة واليقين إلا أن الحافظ الذهبي رحمه الله قال: مات قبل المائة. ولم يبين حجته في هذا، وأظنه قال ذلك تخمينا وتقريبا؛ لأني لم أجد أحدا من العلماء ذكر لعبد الله بن معبد الزماني تاريخ وفاته، حتى الحافظ ابن حجر رحمه الله لم يذكر وفاته في التقريب. وقد نص الحافظ أبو زرعة رحمه الله أن عبد الله بن معبد الزماني لم يدرك عمر. فمعاصرة عبد الله ابن معبد الزماني غير محتملة، أو محتملة ولكن لا دليل عليها ولا نستطيع تأكيدها والقطع بتحققها] (99)، ولذلك أعله الحافظ البخاري رحمه الله بالانقطاع " (100).
أقول: الحديث المنقطع عند البخاري ومسلم وجمهور المحدثين ضعيف؛ لفقده شرطا من شروط الحديث الصحيح، وهو اتصال السند.
قال ابن أبي حاتم الرازي: " سمعت أبي وأبا زرعة يقولان: لا يحتج بالمراسيل، ولا تقوم الحجة إلا بالأسانيد الصحاح المتصلة، وكذا أقول أنا " (101).
وفي مقدمة مسلم: "والمرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة" (102).
وقد ذكر المعترض أن البخاري أعل حديث أبي قتادة بالانقطاع. والواقع أن البخاري لم يصرح بانقطاع هذا السند، وإنما نفى ثبوت سماع عبد الله بن معبد من أبي قتادة.
قال البخاري: " ورواه عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صوم عاشوراء، ولم يذكر سماعا من أبي قتادة " (103).
وقال البخاري أيضا: " وروى غيلان بن جرير عن عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف سماع عبد الله بن معبد من أبي قتادة " (104).
وقال البخاري أيضا: " عبد الله بن معبد الزماني البصري عن أبي قتادة، روى عنه حجاج بن عتاب وغيلان بن جرير وقتادة، ولا نعرف سماعه من أبي قتادة " (105).
¥