وهذه العبارات ليس فيها ثبوت عدم السماع، وإنما فيها نفي ثبوت السماع. وبين العبارتين فرق؛ لأنه إذا ثبت عدم السماع فالسند منقطع عند البخاري وعند مسلم، أما إذا لم يثبت السماع ولا عدمه، مع المعاصرة وإمكان السماع وانتفاء التدليس فهذا السند متصل وليس منقطعا عند مسلم وأما حكمه عند البخاري ففيه ثلاثة أقوال:
الأول: أنه منقطع. ورجح هذا الذهبي وابن حجر (106)، ووافقهما إبراهيم اللاحم (107).
الثاني: أنه لايعد متصلا، كما لايعد منقطعا. وهو قول أبي الحسن بن القطان (108)، ورجحه خالد بن منصور الدريس (109).
الثالث: أنه متصل. وهو قول فريقين من العلماء،وهما:
الفريق الأول: من يقول بأن البخاري يشترط ثبوت اللقاء بين المتعاصرين في السند المعنعن في صحيحه فقط، وليس في أصل الصحة، ومن هذا الفريق ابن كثير (110)، والبلقيني (111)، ووافقهما عبد الفتاح أبوغدة (112)، وهو قول الألباني، فإنه يصف هذا الشرط بأنه شرط كمال لا شرط صحة (113).
الفريق الآخر: من يقول بأن منهج البخاري لا يختلف عن منهج مسلم في عدم اشتراط ثبوت اللقاء بين المتعاصرين في السند المعنعن. وهم جماعة من المعترضين المعاصرين، منهم عبد الكريم صباح (114)، وأبو بكر كافي (115)، وحاتم العوني (116)، وحمزة المليباري (117).
فإذا كان في المسألة ثلاثة أقوال لأهل العلم فيستغرب من جزم المعترض بأن السند منقطع عند البخاري، وإصراره على تضعيف الحديث بذلك، وهو في صحيح مسلم، مع العلم بأن القول باشتراط ثبوت اللقاء بين المتعاصرين في السند المعنعن لا يلزم منه أن الأحاديث التي لم يتوافر فيها ذلك في صحيح مسلم ضعيفة كما هو مذهب المعترض.
يوضح هذا أن العلماء الذين قالوا: إن عنعنة المدلس لا تقبل، ولابد من تصريحه بالسماع لم يعلوا أحاديث المدلسين في الصحيحين بالعنعنة؛ لتلقي الصحيحين بالقبول، ولاحتمال ثبوت التصريح بالسماع في طرق أخرى خارج الصحيحين. فمادامت عنعنة المدلس في الصحيحين أعطيت حكما خاصا يختلف عن حكمها العام، فكذلك الأحاديث التي لم يثبت فيها اللقاء بين المتعاصرين في السند المعنعن في صحيح مسلم، وليس لها متابعات أو شواهد يكون لها حكم خاص عند من يشترط ذلك في الاتصال؛ لمنزلة صحيح مسلم وتلقي الأمة له بالقبول (118). وقد نقل السيوطي عن ابن حجر قوله: "كل علة أعل بها حديث في أحد الصحيحين جاءت رواية المستخرج سالمة منها " (119).
والحاصل أن هذا الحديث متصل الإسناد عند مسلم ومن على مذهبه ممن لا يشترط ثبوت اللقاء بين المتعاصرين في السند المعنعن، بالضوابط التي بينها مسلم في مقدمة صحيحه (120)، فقد كان مسلم دقيقا جدا حين حرر محل النزاع، وأنه في رواية راو توافر فيها عدة شروط: كونه ثقة، غير مدلس عاصر من روى عنه، وأمكن لقاؤه والسماع منه، ولم يثبت ذلك صريحا، ولم يكن هناك دلالة بينة على أنه لم يلقه، أو لم يسمع منه. وهذه شروط محكمة جدا، تضيق دائرة الخلاف بين مسلم ومخالفه، فإذا لم تتوافر الشروط أو بعضها فإن مسلما لا يثبت السماع، ولا يحكم بالاتصال (121).
والضوابط التي أوضحها مسلم متوافرة في رواية عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة، فعبد الله بن معبد ثقة غير مدلس معاصر لأبي قتادة، ولقاؤه وسماعه منه ممكن، ولم يأت ما يفيد أنه لم يسمع منه فروايته عنه محمولة على السماع.
ولهذا لما ذكر ابن حزم أن بعضهم تكلم في سماع عبد الله بن معبد من أبي قتادة قال:
"وأما سماع عبد الله بن معبد من أبي قتادة فعبد الله ثقة، والثقات مقبولون لا يحل رد رواياتهم بالظنون " (122).
ومما يدل على معاصرة عبد الله بن معبد أبا قتادة، أن أبا قتادة توفي سنة أربع وخمسين في قول الأكثرين وقيل: إنه توفي سنة ثمان وثلاثين. قال ابن حجر: والأول أصح وأشهر (123). وقال عن الثاني: "وهو شاذ والأكثر على أنه مات سنة أربع وخمسين. ومما يؤيد ذلك أن البخاري ذكره في الأوسط (124) في فصل من مات بعد الخمسين إلى الستين ثم روى بإسناده إلى مروان بن الحكم قال: كان واليا على المدينة من قبل معاوية أرسل إلى أبي قتادة ليريه مواقف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقال ابن عبد البر: روي من وجوه عن موسى بن عبد الله والشعبي أنهما قالا: صلى علي على أبي قتادة وكبر
¥