"وهذا القول - يرحمك الله - في الطعن في الأسانيد قول مخترع مستحدث غير مسبوق صاحبه إليه، ولا مساعد له من أهل العلم عليه. وذلك أن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديما وحديثا أن كل رجل ثقة روى عن مثله حديثا وجائز ممكن له لقاؤه والسماع منه لكونهما جميعا كانا في عصر واحد وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا ولا تشافها بكلام فالرواية ثابتة والحجة بها لازمة إلا أن يكون هناك دلالة بينة أن هذا الراوي لم يلق من روى عنه أو لم يسمع منه شيئا. فأما والأمر مبهم على الإمكان الذي فسرنا فالرواية على السماع أبدا حتى تكون الدلالة التي بينا. إلى أن قال: وكان هذا القول الذي أحدثه القائل الذي حكيناه في توهين الحديث بالعلة التي وصف أقل من أن يعرج عليه ويثار ذكره؛ إذ كان قولا محدثا وكلاما خلفا لم يقله أحد من أهل العلم سلف، ويستنكره من بعدهم خلف، فلا حاجة بنا في رده بأكثر مما شرحنا؛ إذ كان قدر المقالة وقائلها القدر الذي وصفناه، والله المستعان على دفع ما خالف مذهب العلماء، وعليه التكلان" (133).
قال ابن رجب: " وكثير من العلماء المتأخرين على ما قاله مسلم رحمه الله من أن إمكان اللقي كاف في الاتصال من الثقة غير المدلس، وهو ظاهر كلام ابن حبان وغيره " (134).
وقد ذكر خالد الدريس في كتابه في هذه المسألة جمعا من العلماء ممن هو على مذهب مسلم، وهم: ابن حبان، والحاكم، وابن حزم، وابن القطان الفاسي، وابن دقيق العيد، وابن تيمية، وابن جماعة والمزي، والطيبي، وابن التركماني، وابن كثير، والصنعاني، وشبير العثماني، وأحمد شاكر، وعبد الرحمن المعلمي، وعبد الفتاح أبوغدة، والألباني، ثم نبه الدريس على أن جل المشتغلين بالحديث في هذا العصر ممن لهم تصانيف متداولة على مذهب مسلم (135).
وذكر الألباني أن ممن رجح مذهب مسلم في الاكتفاء بالمعاصرة مع إمكان اللقاء النووي والطيبي والعلائي والذهبي وابن كثير وابن الملقن وابن حجر والصنعاني ثم قال عنهم: " وأكدوا ذلك عمليا في تصحيحهم للأحاديث المروية بأسانيد لا يمكن التحقق من ثبوت التلاقي بين الرواة في كل الطبقات، هذا يكاد يكون مستحيلا، يعرف ذلك من مارس فن التخريج، ولم يكن من أهل الأهواء" (136).
وقد استدل مسلم على صحة مذهبه بأمور ذكرها في مقدمة صحيحه، وزاد عليها موافقوه أدلة أخرى، ليس هذا محل ذكرها (137).
وذكر عبد الفتاح أبوغدة ومسفر الدميني أن العلماء تلقوا صحيح مسلم بالقبول وحكموا لأحاديثه بالصحة مع معرفتهم بشرطه بالعنعنة، فإذا كانت أحاديثه صحيحة لزم أن يكون الشرط الذي بنى عليه كتابه صحيحا هو الآخر (138).
وقد نبه الألباني على أن أهل الأهواء وأعداء السنة قد يتخذون اشتراط اللقاء سلما للطعن في الأحاديث الصحيحة، حتى ما كان منها متفقا عليه بين الشيخين وغيرهما، وبخاصة إذا كان هناك قيل بعدم السماع من الراوي عن المروي عنه. قال: "ولذلك فإنه يجب تبني قول جماهير العلماء بالاكتفاء بالمعاصرة من باب سد الذريعة أيضا الذي هو من القواعد الهامة في الشريعة". ثم ذكر أمثلة عصرية ضعفت فيها أحاديث في الصحيح بهذه الحجة (139).
وبعد هذا يحسن التنبيه على قول المعترض رادا على من انتقده بأن الحديث الذي ضعفه لم ينتقده الدارقطني ولا غيره ممن تعقبوا الصحيحين: " من المعلوم بأن العالم يجتهد على حسب وسعه في بيان العلم من نقد وغيره، لكن لا بد أن يخفى عليه بعض العلم، وذلك من طبيعة البشر. ولذلك فات الحافظ الدارقطني وغيره بعض الأحاديث التي انتقدت على مسلم في صحيحه، منها حديث صوم يوم عرفة ... والأئمة حينما استثنوا ما انتقده الحفاظ لم يقصدوا بالحفاظ الدارقطني وابن عمار بل قصدوا
كل من يصح أن يطلق عليه أنه من الحفاظ " (140).
والجواب أن عدم انتقاد الدارقطني وغيره هذا الحديث على مسلم ليس لأنه فاتهم وغفلوا عنه؛ وإنما لأنه ليس له علة يعلونه بها، كما تبين فيما سبق. وأما عدم ثبوت سماع عبدالله بن معبد من أبي قتادة فليست علة عند مسلم ومن على مذهبه ممن لا يشترط ثبوت اللقاء بين المتعاصرين في السند المعنعن.
¥