تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقد استغرب المعترض تردد النبي صلى الله عليه وسلم في الجواب حين سئل عن صيام الدهر، فقال: " لا صام ولا أفطر " أو " ما صام وما أفطر "، فظن المعترض أن الشك من النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه قال ذلك كله، وهذا غير صحيح، فهذا الشك من الراوي لا من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد شك أي اللفظين قاله النبي صلى الله عليه وسلم مع أن المعنى واحد لكنها أمانة الرواية. وهذا صريح في رواية مسلم الأولى ففيها قول عمر: يا رسول الله، كيف بمن يصوم الدهر كله؟ قال: " لا صام ولا أفطر "، أو قال: " لم يصم ولم يفطر ".

وأما استغراب المعترض من قوله صلى الله عليه وسلم:" ليت أن الله قوانا لذلك "، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قواه الله تعالى على الصوم والوصال فيه، فقد أجاب العلماء عن ذلك قديما.

قال القاضي عياض في قوله صلى الله عليه وسلم:" وددت أني طوقت ذلك ": " قيل: وجهه في حق غيره لا لعجز نفسه؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يواصل، ويقول:" إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني "، لكن قال هذا لما يلزمه من حقوق نسائه، أو يكون هذا التمني لغيره من أمته".

قال النووي: "ويؤيد هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الثانية: " ليت أن الله قوانا لذلك " أو يقال: إنما قاله لحقوق نسائه وغيرهن من المسلمين المتعلقين به والقاصدين إليه" (153).

وقال القرطبي: " قوله "ليت أن الله قوانا لذلك" يشكل مع وصاله، وقوله "إني أبيت أطعم وأسقى" ويرتفع الإشكال بأن هذا كان منه صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة، ففي وقت يواصل الأيام بحكم القوة الإلهية وفي آخر يضعف فيقول هذا بحكم الطباع البشرية. ويمكن أن يقال: تمنى ذلك دائما، بحيث لا يخل بحق من الحقوق التي يخل بها من أدام صومه من القيام بحقوق الزوجات، واستبقاء القوة على الجهاد، وأعمال الطاعات " (154).

ويؤيد الوجه الأول الذي ذكره القرطبي حديث عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم. متفق عليه (155).

ويمكن أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك تواضعا. ولهذا نظائر كثيرة، كحديث أنس رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا خير البرية!. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذاك إبراهيم عليه السلام " رواه مسلم (156). قال النووي: "قال العلماء: إنما قال صلى الله عليه وسلم هذا تواضعا واحتراما لإبراهيم صلى الله عليه وسلم لخلته وأبوته وإلا فنبينا صلى الله عليه وسلم أفضل" (157). وكحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " نحن أحق بالشك من إبراهيم؛ إذ قال {رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} (158) ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي " متفق عليه (159). قال النووي: "وإنما رجح إبراهيمَ على نفسه صلى الله عليه وسلم تواضعا وأدبا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه ما قاله تواضعا وإيثارا للإبلاغ في بيان كمال فضيلة يوسف صلى الله عليه وسلم " (160). وكحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء: " اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي " متفق عليه (161).

قال النووي: "قوله "وكل ذلك عندي" أي: أنا متصف بهذه الأشياء اغفرها لي. قيل قاله تواضعا وعد على نفسه فوات الكمال ذنوبا. وقيل: أراد ما كان عن سهو. وقيل ما كان قبل النبوة. وعلى كل حال فهو صلى الله عليه وسلم مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فدعا بهذا وغيره تواضعا؛ لأن الدعاء عبادة" (162).

ولو سلمنا للمعترض بأن ألفاظ الحديث فيها ركاكة فهذا لا يكفي للجزم بعدم ثبوت الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لاحتمال أن يكون قد روي بالمعنى. قال ابن حجر:" أما ركاكة اللفظ فقط فلا تدل على ذلك [يعني الوضع] لاحتمال أن يكون رواه بالمعنى فغير ألفاظه بغير فصحيح. نعم إن صرح بأنه من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم فكاذب " (163).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير