وأنبه هنا على ما نبهت عليه في المقدمة من أن استعمال المعترض لمقياس الركاكة الذي يذكره العلماء في القرائن التي يعرف بها أن الحديث موضوع (164) يدل على أن المعترض يعتقد أن حديث أبي قتادة موضوع لا ضعيف فحسب، مما يعني أن صحيح مسلم فيه أحاديث موضوعة!
المبحث الرابع:
رد إعلال الحديث بدعوى اضطراب متنه
قال المعترض في وجوه ضعف الحديث: " الوجه الثالث: بأنه معلول باضطراب متنه كما قال الحافظ الدارقطني وغيره من المحدثين" (165).
وقال المعترض أيضا: "ولعل أيضا نذكر ألفاظ الحديث واضطرابها ليتبين ضعف الحديث أيضا بهذه العلة كذلك " (166). ثم ذكر أن في بعض ألفاظ الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل فأجاب، وفي بعضها ذكر الحديث مباشرة بدون ذكر السؤال، وأشار إلى أنه أحيانا يروى مطولا، وأحيانا يروى مختصرا فجعل ذلك اضطرابا في المتن (167).
والجواب أنني لم أجد أحدا من المحدثين لا الدراقطني ولا غيره ذكر أن الحديث مضطرب المتن، ولم يذكر المعترض معتمده في ذلك.
ثم إن ما ذكره المعترض لا يعد اضطرابا، وإلا لحكم على كثير من أحاديث الصحيحين بالاضطراب، فكل من يقرأ في الصحيحين يجد كثيرا من الأحاديث لها عدة ألفاظ يرويها صاحب الصحيح، ويكون بين بعض روايات الحديث الواحد تفاوت في الطول والاختصار. وهذا عبد الحق الإشبيلي يشرح خطة عمله في الجمع بين الصحيحين فيقول: "وما كتبت من حديث كامل لمسلم ثم أخذت زيادة زادها في تكرار الأسانيد أو لخصتها من حديث تكرر، أو كان حديثا مختلف الألفاظ قلت: وفي رواية كذا، وفي طريق آخر كذا، أو في لفظ آخر كذا، هذا إذا كان عن ذلك عن صاحب واحد، وإن كانت الطرق إليه مختلفة .... وما تفرد به مسلم أيضا من حديث بينته، ونبهت عليه بعد استقصائه، وإخراج ما كان كثير الاختلاف من ألفاظه، حتى يتبين ما زاده كل واحد منهما على صاحبه، وما انفرد به دونه. إلى أن قال: وإذا اختلفت ألفاظ حديث البخاري مع حديث مسلم اختلافا كثيرا، وخفت أن يستقرأ منه حكم أثبته، ولم أبين مابينهما من الاختلاف؛ إذ ذلك يستبين لقارئه والناظر فيه. وربما بينته في بعض المواضع. وإن كان حديث فيه زيادات كثيرة، وكان كتبه بجملته أسهل من استخراجها وأبين لقارئها كتبته. وإن كان أيضا أغرب ألفاظا أو أحسن مساقا، ربما كتبته وبينت الوجه الذي كتبته له" (168).
وهذا صالح الشامي يقول في خطة عمله في الجامع بين الصحيحين: "وإن كان لديه (يعني البخاري) أكثر من رواية وبألفاظ مختلفة فإني أختار الرواية الأعم والأشمل، وأكتفي بها إن كان نصها يستوعب نصوص بقية الروايات، وإن لم تكن كذلك فإني أضعها، وأشير إلى الفروق والزيادات في الروايات الأخرى. وإن كان الخلاف كبيرا بينها فإني أذكرها جميعا" (169).
وقد ذكر ابن حجر أن أكثر العلماء على جواز الرواية بالمعنى، وجواز اختصار الحديث بضوابط معروفة في مظانها (170).
وأما الاضطراب في المتن فيكون إذا روي الحديث بألفاظ مختلفة، بينها تعارض أو تناقض فإذا لم يمكن الجمع ولا الترجيح حكم على الحديث بأنه مضطرب في متنه.
قال العراقي: " ومثال الاضطراب في المتن حديث فاطمة بنت قيس، قالت: سألت، أو سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الزكاة، فقال: " إن في المال لحقا سوى الزكاة ". فهذا حديث قد اضطرب لفظه ومعناه، فرواه الترمذي (171) هكذا من رواية شريك عن أبي حمزة عن الشعبي عن فاطمة. ورواه ابن ماجه (172) من هذا الوجه بلفظ:"ليس في المال حق سوى الزكاة " فهذا اضطراب لا يحتمل التأويل " (173).
ومثل بعضهم لمضطرب المتن بحديث القلتين؛ إذ روي بلفظ " إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث "، وبلفظ " قلتين أو ثلاثا "، وبلفظ " أربعين قلة "، فحكم عليه بعضهم باضطراب المتن لاختلاف هذه الألفاظ وتعارضها على وجه لا يمكن معه الجمع. لكن أجيب بأن تلك الروايات ليست على درجة واحدة من القوة وإنما الرواية الراجحة هي باللفظ الأول (174).
والمقصود أن ما عده المعترض اضطرابا في متن الحديث لا ينطبق عليه مفهوم الاضطراب في المتن، المعروف عند أهل العلم، وإنما هو ناتج عن تصرف الرواة، فبعضهم يرويه مختصرا، وبعضهم يرويه مطولا، وبعضهم يرويه بالمعنى، وليس بين ذلك كله تناقض أو تعارض.
¥