وحين سئل عن طريق أخرى لهذا الحديث، وهي طريق حرملة بن إياس الشيباني عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر وجوه اختلاف الرواة في هذه الطريق وأطال حتى بلغ نحو ثلاث صفحات ثم قال: "هو مضطرب لا أحكم فيه بشيء" (184)، فهو هنا يريد هذه الطريق بعينها طريق حرملة، لا أصل الحديث فقد سبق أن ذكر الراجح فيه. ووقوع اضطراب في إحدى طرق الحديث لا يعني الحكم على بقية طرقه بالاضطراب.
قال ابن الجوزي: "اضطراب بعض الرواة لا يؤثر في ضبط غيره، ثم استشهد ابن الجوزي بأن الأثرم ذكر للإمام أحمد أن الرواة اضطربوا في حديث ثوبان في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم من القيء، فقال الإمام أحمد: حسين المعلم يجوده" (185).
ومع أن الدراقطني حكم على طريق حرملة بالاضطراب إلا أنه عاد فاستكمل ذكر وجوه الاختلاف في هذه الطريق ثم قال: "وأحسنها إسنادا قول من قال: عن أبي الخليل عن حرملة بن إياس عن أبي قتادة" (186)
وقد استدل المعترض على اضطراب سند هذا الحديث بأن أبا حاتم الرازي ذكر حديثا رواه قبيصة عن الثوري عن منصور عن مجاهد عن حرملة بن إياس عن أبي الخليل عن مولى أبي قتادة عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صوم يوم عاشوراء أنه كفارة سنة، فقال أبوحاتم: "هذا خطأ، إنما هو: منصور عن أبي الخليل عن حرملة بن إياس " (187).
والجواب أن هذا لا يدل على اضطراب الحديث، فقد بين أبو حاتم الخطأ والصواب في رواية هذه الطريق، فيعتمد الصواب ويترك الخطأ.
واستدل المعترض أيضا على اضطراب سند هذا الحديث بأن أبا زرعة الرازي سئل عن حديث اختلف فيه سليمان بن حرب وشيبان بن فروخ، فروى سليمان بن حرب عن أبي هلال عن غيلان بن جرير عن عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الاثنين، فقال:
" ذاك يوم ولدت فيه، ويوم أنزلت علي النبوة ". ورواه شيبان فقال: عن أبي هلال عن غيلان عن عبد الله بن معبد عن عمر بن الخطاب، فقال أبو زرعة: "حديث سليمان أصح" (188).
والجواب أن أبا زرعة رجح أحد الوجهين، فلا يكون مع هذا اضطراب كما سبق توضيحه.
المبحث السادس:
رد إعلال الحديث بدعوى مخالفته كون يوم عرفة عيدا فلا يصام
قال المعترض في وجوه ضعف الحديث: " الوجه الخامس بأنه معلول بالضعف؛ لأن يوم عرفة يعتبر عيدا من أعياد المسلمين فلا يصومه العبد كما بين أهل العلم " (189).
واستدل على ذلك بحديث موسى بن عُلَي بن رباح عن أبيه أنه سمع عقبة بن عامر رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهلَ الإسلام، وهي أيام أكل وشرب " رواه أبو داود (190)، والترمذي، وقال: حسن صحيح (191).
قال المعترض: " فالحديث يدل على أن هذه الأيام الخمسة - بما فيها يوم عرفة - أيام أكل وشرب للحاج ولغير الحاج " (192).
والجواب من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أنه لا يصح الاستدلال بهذا الحديث على عدم مشروعية صيام يوم عرفة؛ لأن ذكر "يوم عرفة" في هذا الحديث غير محفوظ.
قال الأثرم تلميذ الإمام أحمد: "وأما حديث عقبة بن عامر فإنه حديث تفرد به موسى بن عُلي. وروى الناس هذا الحديث من وجوه كثيرة، فلم يدخلوا فيه "صوم عرفة" غيره. فالأحاديث إذا تظاهرت فكثرت كانت أثبت من الواحد الشاذ " (193).
وقال ابن عبد البر: "هذا حديث انفرد به موسى بن علي عن أبيه، وما انفرد به فليس بالقوي. وذكر يوم عرفة في هذا الحديث غير محفوظ، وإنما المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه " يوم الفطر، ويوم النحر، وأيام التشريق أيام أكل وشرب " (194).
وقال ابن عبد البر أيضا: "هذا حديث في جمع يوم عرفة مع أيام التشريق في النهي عن صيامها لا يأتي إلا بهذا الإسناد" (195).
وقال ابن عبد البر أيضا: "لا يوجد ذكر يوم عرفة في غير هذا الحديث" (196).
وهذا قول جمع من العلماء المصنفين في علوم الحديث، فإنهم حين يتكلمون عن الحديث الشاذ يذكرون هذا الحديث مثالا على الشذوذ في المتن، ومنهم الزركشي (197) والسخاوي (198)، وزكريا الأنصاري (199)، وعلي القاري (200).
¥