قال السخاوي: "ومثاله في المتن زيادة "يوم عرفة" في حديث " أيام التشريق أيام أكل وشرب"؛ فإن الحديث من جميع طرقه بدونها، وإنما جاء بها موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر كما أشار إليه ابن عبد البر" (201).
وقد روى حديث " أيام التشريق أيام أكل وشرب " جمع من الصحابة، منهم نبيشة، وكعب بن مالك، وعقبة بن عامر، وبشر بن سحيم، وأبو هريرة، وعبد الله بن حذافة، وعلي بن أبي طالب، وقد خرجها جماعة مع كثرة طرقها كما قال المنذري (202).
وعد السيوطي هذا الحديث في الأحاديث المتواترة، وذكر ستة عشر صحابيا ممن رواه (203)، ولم يذكر في هذه الأحاديث "يوم عرفة" مع أيام التشريق إلا ما وقع في رواية موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عقبة ابن عامر.
ويؤيد شذوذ هذه اللفظة من حيث المعنى أمران:
1 - أن الأيام التي يصدق وصفها بأنها أيام أكل هي أيام التشريق، وليس يوم عرفة؛ فإن الأكل هنا مرتبط بالهدايا والضحايا التي لا تذبح إلا في يوم النحر وأيام التشريق، ولاتذبح يوم عرفة.
2 - ماذكره علي القاري من أن كراهة صوم يوم عرفة تنزيهية بالاتفاق، والصوم أيام التشريق حرام بالإجماع، فلامناسبة لذكره معها (204).
الوجه الثاني: أن وصف يوم عرفة بأنه عيد لا يدل على عدم مشروعية صيام يوم عرفة لغير الحجاج؛ لأن المقصود به أن عرفة عيد لأهل عرفة من الحجاج؛ لاجتماعهم فيه، فلايشرع لهم صيامه بخلاف سائر المسلمين غير الحجاج فإنه يشرع لهم صيامه.
قال الطحاوي: "فكان في هذا الحديث إدخال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة في أيام أعياد المسلمين، وإعلامه إياهم أنه يوم طعم وشرب، كما أعلمهم في بقيتها أنها أيام طعم وشرب. فتأملنا ذلك فوجدنا سائر الأيام المذكورة في هذا الحديث سوى يوم عرفة مخصوصة بمعنى يتقرب إلى الله عز وجل به فيها من صلاة ومن نحر ومن تكبير يعقب الصلوات الفرائض اللاتي يصلى فيها، فكانت بذلك أعيادا للمسلمين، ولم يجز صومها لذلك. ووجدنا يوم عرفة، فيه أيضا سبب مما يتقرب به إلى الله عز وجل ليس في غيره من الأيام، وهو الوقوف بعرفة للحج، وكان ذلك مما ليس في سائر البلدان سوى عرفة، وكان ما خصت به الأيام المذكورة في حديث عقبة سواه يستوي حكمها في البلدان كلها، فعقلنا بذلك أنها أعياد في البلدان كلها، فلم يصلح صومها في شيء منها، وكان يوم عرفة عيدا في موضع خاص دونما سواه من المواضع، فلم يصلح صومه هنالك، وصلح صومه فيما سواه من المواضع ..... ولما كان يوم عرفة ليس بعيد فيما سوى عرفة كان صومه فيما سوى عرفة طلقا، وكان من صامه فيما سوى عرفة ممن قد دخل فيمن وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثواب على صومه المذكور في حديث أبي قتادة.
فإن قال قائل: فقد رأينا من صام يوم عرفة بعرفة عن واجب عليه أجزأه صومه منه، ولم يكن كمن صام يوما من تلك الأيام الأخر عن واجب عليه لا يجزئه صومه عنه، فكيف افترقت أحكامها، وهي مجموعة بمعنى واحد في حديث واحد؟.
فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه أن الأشياء قد تجمع في شيء واحد، وأحكامها في أنفسها مختلفة. من ذلك قول الله: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (205)، فجمع الله عز وجل هذه الأشياء في آية واحدة، ونهى عنها نهيا واحدا، وكانت مختلفة في أحكام ما نهى عنها فيه؛ لأن الرفث هو الجماع، وهو يفسد الحج، وما سوى الرفث من الفسوق
والجدال لا يفسد الحج. فمثل ذلك ما جمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عن صومه من الأيام المذكورة في حديث عقبة جميعها بنهي واحد، وخالف بين أحكامها فيما قد ذكرت" (206).
ويؤيد ما ذكره الطحاوي من أن يوم عرفة إنما هو عيد في موضع خاص دونما سواه من المواضع أن جماعة من السلف أنكروا التعريف في الأمصار عشية عرفة، وهو أن يجتمع الناس في المساجد عشية عرفة يدعون ويذكرون، منهم نافع مولى ابن عمر، فقد اجتمع الناس يوم عرفة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يدعون بعد العصر فخرج نافع فقال: " أيها الناس، إن الذي أنتم عليه بدعة، وليست بسنة، إنا أدركنا الناس، ولا يصنعون مثل هذا " (207).
وقال سفيان الثوري: "ليست عرفة إلا بمكة، ليس في هذه الأمصار عرفة " (208).
¥