ونقل ابن القيم عن شيخ الإسلام ابن تيمية قوله: "إنما يكون يوم عرفة عيدا في حق أهل عرفة؛ لاجتماعهم فيه، بخلاف أهل الأمصار، فإنهم إنما يجتمعون يوم النحر، فكان هو العيد في حقهم" (209)
وقال ابن حجر: "وقيل إنما كره صوم يوم عرفة؛ لأنه يوم عيد لأهل الموقف، لاجتماعهم فيه. ويؤيده ما رواه أصحاب السنن عن عقبة بن عامر مرفوعا " يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام" (210).
الوجه الثالث: أن وصف يوم عرفة بالعيد لا يقتضي تحريم صومه ما لم يثبت نهي عن صيامه.
قال الطبري: " وليس في قوله صلى الله عليه وسلم:" يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، هن أيام أكل وشرب " دلالة على نهيه عن صوم شيء من ذلك، وإن كان صوم يوم النحر غير جائز عندنا؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صومه نصا، ولإجماع الأمة نقلا عن نبيها صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز صومه. وإنما قلنا: لا دلالة له في ذلك من قوله على نهيه صلى الله عليه وسلم عن صوم شيء من ذلك؛ لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاقه لأمته صوم يوم الجمعة إذا صاموا يوما قبله أو يوما بعده، وهو لهم عيد، فلم يحرم صومه عليهم من أجل أنه عيد لهم بل وعدهم من الله على صومه على ما أطلقه لهم الجزيل من الثواب، فكذلك يوم عرفة لا يمنع كونه عيدا من أن يصومه بغير عرفة من أراد صومه، بل له على ذلك الثواب الجزيل والأجر العظيم " (211).
ويؤيد هذا ما مضى ذكره في أول البحث من أن بعض الصحابة شكوا يوم عرفة في كون النبي صلى الله عليه وسلم صائما، وقال بعضهم: هو صائم. فلو كان يوم عرفة عيدا يحرم الصوم فيه مطلقا لما شك الصحابة ذلك الشك.
المبحث السابع:
رد إعلال الحديث بعدم عمل النبي صلى الله عليه وسلم به
قال المعترض في وجوه ضعف الحديث: " الوجه السادس بأنه معلول بالضعف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم يوم عرفة، ولا صحابته رضي الله عنهم " (212).
وقال المعترض أيضا في وجوه ضعف الحديث:" الوجه العاشر بأنه معلول بالضعف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم العشر من ذي الحجة، ومنه يوم عرفة" (213)
و الجواب أن الحديث الصحيح لا يعل بعدم عمل النبي صلى الله عليه وسلم به، وإلا لردت أحاديث صحيحة كثيرة.
قال ابن حزم رادا على من احتج بهذه الحجة: " وأما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصمه فلا حجة لكم في ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد حض على صيامه أعظم حض، وأخبر أنه يكفر ذنوب سنتين، وما علينا أن ننتظر بعد هذا أيصومه صلى الله عليه وسلم أم لا؟ " (214). ثم روى ابن حزم حديث عائشة أم المؤمنين أنها قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل، وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم. وما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها. متفق عليه (215).
وقد تقرر في علم أصول الفقه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يترك الفعل المستحب لأسباب، منها خشية أن يفرض على الأمة، ومنها خشية أن يظن أنه واجب، ومنها خشية المشقة التي تلحق الأمة في الاقتداء بالفعل ومنها خشية حدوث مفسدة أعظم من مصلحة الفعل، ومنها إرادة العقوبة إلى آخر ما ذكره العلماء في هذه المسألة، وفصلوا فيه القول (216).
والنبي صلى الله عليه وسلم كان له مع يوم عرفة حالان: حال الحج، وحال عدم الحج. ففي حال حجه كان في يوم عرفة مفطرا. دل على هذا حديث أم الفضل بنت الحارث رضي الله عنها أن ناسا تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن، وهو واقف على بعيره، فشربه. متفق عليه (217).
وحديث ميمونة رضي الله عنها أن الناس شكوا في صيام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فأرسلت إليه بحلاب، وهو واقف في الموقف، فشرب منه، والناس ينظرون. متفق عليه (218).
وأما في غير حجه فروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم عرفة. فقد روى أبوداود في سننه (219) قال:
¥