ويؤيد هذا أن ابن عباس رضي الله عنهما لم يذكر صوم شعبان، وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:"لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرا أكثر من شعبان؛ فإنه كان يصوم شعبان كله". متفق عليه (233). فاقتصار ابن عباس على ذكر يوم عاشوراء لا يستلزم ضعف الأحاديث التي ذكرت غيره.
المبحث الثامن:
رد إعلال الحديث بعدم عمل الصحابة به.
قال المعترض في وجوه ضعف الحديث: "الوجه السادس بأنه معلول بالضعف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم يوم عرفة، ولا صحابته رضي الله عنهم " (234).
وقال أيضا:" الوجه التاسع: بأنه معلول؛ لإجماع الصحابة رضي الله عنهم على عدم سنية صوم يوم عرفة " (235).
أما استدلال المعترض على ضعف الحديث بأن الصحابة لم يصوموه فمردود بما يلي:
1 - أن عدم عمل الصحابة بالحديث لا يستلزم عدم ثبوته؛ فقد يكون عدم عملهم لأسباب لا علاقة لها بضعف الحديث كما تقدم في الكلام عن أسباب ترك النبي صلى الله عليه وسلم العمل المستحب.
قال ابن كثير: "وأما إعراض العالم عن الحديث المعين بعد العلم به فليس قادحا في الحديث باتفاق؛ لأنه قد يعدل عنه لمعارض أرجح عنده مع اعتقاد صحته" (236).
2 - أنه ثبت عن جمع من الصحابة أنهم صاموا يوم عرفة، وهم عائشة، والزبير بن العوام، وعثمان ابن أبي العاص، وعبد الله بن الزبير، فكيف يدعي المعترض إجماع الصحابة على خلافه؟!
أما أثر عائشة رضي الله عنها فأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (237) في كتاب الصيام - باب ما قالوا في صوم يوم عرفة بغير عرفة:
قال: حدثنا وكيع عن شعبة عن أبي قيس عن هزيل عن مسروق عن عائشة أنها كانت تصوم عرفة.
حدثنا غندر عن شعبة عن أبي قيس عن هزيل عن مسروق عن عائشة قالت: ما من السنة يوم أحب إلي أن أصومه من يوم عرفة.
وهذا سند صحيح عن عائشة، رجاله كلهم ثقات. وأبو قيس هو عبد الرحمن بن ثروان الأودي الكوفي.
ولم يصب المعترض حين ضعف هذا الأثر فقال: "وهذا سند لين، فيه عبد الرحمن بن ثروان الأودي، وهو لين الحديث، ويخالف في أحاديث فلا يحتج به إذا تفرد "، وأحال على تهذيب الكمال، ثم ذكر أن هذا الأثر مخالف لما روت عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم (238).
والجواب أن عبد الرحمن بن ثروان وثقه ابن معين، والعجلي، وابن نمير، والنسائي، والدارقطني، والذهبي بل وصفه العجلي بأنه ثقة ثبت، وقال ابن حجر: "صدوق ربما خالف" (239). ولم يتكلم فيه سوى أحمد وأبي حاتم الرازي. أما أحمد فاختلفت الرواية عنه فنقل عنه تضعيفه إياه، ونقل عنه قوله فيه: "ليس به بأس". والذي يظهر أن تضعيفه إياه كان متجها إلى حديث معين رواه وأخطأ فيه (240). وأما أبو حاتم الرازي فقال: "ليس بقوي هو قليل الحديث، وليس بحافظ. قيل له: كيف حديثه؟. قال: صالح هو لين الحديث" (241). وأبو حاتم متشدد، ويظهر أنه يريد بما قاله الخطأ الذي وقع فيه في بعض حديثه. وليس من شرط الثقة ألا يغلط مطلقا.
وهذا الراوي من رجال البخاري، روى له حديثين في صحيحه (242).
ولهذا الأثر طريق أخرى صحيحة أخرجها الطبري قال: حدثنا ابن بشار حدثنا أبوداود حدثنا شعبة عن يحيى بن سعيد عن القاسم قال: "كانت عائشة تصوم يوم عرفة" (243).
وهذا سند صحيح عن عائشة رضي الله عنها.
وأما ما ذكره المعترض من أن هذا الأثر يخالف حديث عائشة في صحيح مسلم، ويعني به قولها: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما في العشر قط"؛ فلا يسلم له، فأثر ابن أبي شيبة تخبر فيه عائشة عن نفسها، وحديث مسلم تخبر فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يكونان متعارضين؟!.
وصيام عائشة يوم عرفة الذي في هذا الأثر عام يشمل حال الحج وغيره. ولهذا ذكر ابن أبي شيبة هذا الأثر في باب ما قالوا في صوم يوم عرفة بغير عرفة؛ لأنه يدل على ذلك.
وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تصوم يوم عرفة بعرفة، فقد روى مالك في الموطأ (244) عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد أن عائشة أم المؤمنين كانت تصوم يوم عرفة. قال القاسم: "ولقد رأيتها عشية عرفة يدفع الإمام، ثم تقف حتى يبيض ما بينها وبين الناس من الأرض، ثم تدعو بشراب فتفطر".
وهذا سند صحيح عن عائشة رضي الله عنها، رجاله كلهم ثقات.
¥