وقد جزم المعترض بأن الحسين لم يكن حاجا، وليس في الأثر ما يدل على ذلك، فجزم المعترض بذلك تحكم بلا دليل. وقد روى عبد الرزاق في مصنفه (352) عن ابن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رجلا أتى حسنا وحسينا يوم عرفة، فوجد أحدهما صائما والآخر مفطرا، قال: "لقد جئت أسألكما عن أمر اختلفتما فيه، فقالا: ما اختلفنا. من صام فحسن، ومن لم يصم فلا بأس".
وهذا سند رجاله ثقات لكنه منقطع، فمحمد الباقر بن علي بن الحسين روايته عن الحسن والحسين مرسلة (353). فهذا الأثر يرد به على استدلال المعترض بالأثر السابق على أن الحسين لا يرى صيام يوم عرفة
الأثر الحادي عشر:
أثر ابن عمر رضي الله عنهما، وقد أخرجه ابن الجعد عن شعبة عن محمد بن مرة عن محمد بن سعيد قال: رأيت ابن عمر يوم عرفة، وهو يأكل (354).
قال المعترض: "هذا سند حسن" (355).
أقول: لم أجد أحدا ترجم لمحمد بن سعيد الراوي عن ابن عمر غير أن المزي ذكر في ترجمة محمد بن مرة أن ممن روى عنه محمد بن سعيد صاحب ابن عمر (356). لكنني وجدت عددا من العلماء يذكرونه باسم محمد بن عبد الله:
قال البخاري: "محمد بن مرة عن محمد بن عبد الله، روى عنه شعبة" (357).
وقال أبو حاتم الرازي: "محمد بن عبد الله رأى ابن عمر يأكل بعرفة، روى عنه محمد بن مرة الكوفي هو مجهول لا يدرى من هو" (358).
وقال ابن حبان: "محمد بن عبد الله شيخ يروي عن ابن عمر. روى شعبة عن محمد بن مرة عنه" (359)
وقال الذهبي: "محمد بن عبد الله عن ابن عمر، وعنه محمد بن مرة: مجهول" (360).
فالحاصل أن راوي هذا الأثر عن ابن عمر مجهول كما قال أبو حاتم، والذهبي، فالسند ضعيف، ومع ذلك حسنه المعترض.
وقد استدل به المعترض على أن ابن عمر كان مفطرا في يوم عرفة في غير الحج، وليس في الأثر ما يدل على ذلك، بل جاء ما يدل على أن ذلك كان في الحج، فقد أخرج الأثر أبو نعيم من طريق عاصم ابن علي عن شعبة عن محمد بن مرة عن محمد بن سعد بن أبي وقاص (361) قال: "دخلت على ابن عمر بعرفات وهو يأكل" (362).
فهذا جميع ما ذكره المعترض من الآثار التي استدل بها وقال: "قد بينت هذه الآثار التي ذكرناها عن السلف رضي الله عنهم إفطارهم يوم عرفة بلا شك في غير الحج" (363).
أقول: قد تمت مناقشة كل أثر منها، وتبين أنه ليس في شيء ثابت منها ما يدل على أن ذلك كان في غير الحج.
والعجيب قول المعترض في بيان وجوه ضعف حديث أبي قتادة:" الوجه الثاني عشر: بأنه معلول بالضعف لنهي الصحابة رضي الله عنهم عن صوم يوم عرفة للحاج ولغير الحاج " (364).
فنسب النهي عن صوم يوم عرفة إلى الصحابة بإطلاق، وهو لم يذكر من روي عنه ذلك النهي سوى عمر وابن عمر رضي الله عنهما!
وقد استدل المعترض بأثر عن ابن مسعود فقال: "وثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه لم يصوم (365) يوم عرفة مع ما فيه من الأجر العظيم. عن عبد الرحمن بن يزيد أن عبد الله لا يكاد يصوم، فإذا صام صام ثلاثة أيام من كل شهر، ويقول: إني إذا صمت ضعفت عن الصلاة، والصلاة أحب إلي من الصوم. فكيف يكون صوم يوم عرفة مستحبا، ويكفر السنة الماضية والباقية، ولم يصومه (366) ابن مسعود رضي الله عنه؟ " (367).
والجواب عما ذكره يكون بثلاثة أمور، وهي:
1 - أن ابن مسعود رضي الله عنه لم يتعمد تخصيص يوم عرفة بترك الصيام، وإنما كان يقل من الصوم التطوعي بعمومه، ولم يعلل ترك صيامه الأيام التي لم يكن يصومها بأنه لم يثبت في صيامها فضل، وإنما علل ذلك بتعارض الصوم التطوعي والصلاة التطوعية عنده فهو لا يقدر إلا على واحد منهما، فآثر فعل الأفضل وترك المفضول كما هو مقرر في القواعد الشرعية. وممن نبه على هذا الطبري في تهذيب الآثار (368).
2 - أنه يلزم المعترض حين استدل بأثر ابن مسعود على ما ذكره أن ينفي استحباب صيام الست من شوال وصيام الاثنين، وصيام عاشوراء، وغيرها مما دل الدليل على استحباب صيامه، بحجة أن ابن مسعود لم يصمها. وقد روى عبد الرزاق في مصنفه (369) عن الثوري عن عبد الكريم الجزري عن أبي عبيدة عن أمه قالت: "ما رأيت عبد الله بن مسعود صائما قط غير يومين إلا رمضان. قالت: لا أدري ما كان شأن ذلك اليومين؟ ".
¥