ومنه حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " متفق عليه (383).
قال ابن حجر (384): "قيل إن صيغة الأمر في قوله اعملوا للتشريف والتكريم، والمراد عدم المؤاخذة بما يصدر منهم بعد ذلك، وأنهم خصوا بذلك لما حصل لهم من الحال العظيمة التي اقتضت محو ذنوبهم السابقة وتأهلوا لأن يغفر الله لهم الذنوب اللاحقة إن وقعت. أي كل ما عملتموه بعد هذه الواقعة من أي عمل كان فهو مغفور".
وللحافظ ابن حجر كتاب اسمه: الخصال المكفرة للذنوب المقدمة والمؤخرة جمع فيه الأحاديث التي ورد فيها الوعد بغفران ما تقدم من الذنوب وما تأخر، بين في مقدمته أن هذا جائز وواقع وقال: "وإذا علم أن الله تعالى مالك كل شيء، له ما في السماوات وما في الأرض، وما بينهما وما تحت الثرى لم يمتنع أن يعطي من شاء ما شاء. وقد ثبت أن ليلة القدر خير من ألف شهر. وقد يقع العمل في بعض ليالي السنة من بعض الناس أكثر مما يعمل فيها، ومع ذلك فالعمل فيها أفضل من غيرها" (385)
وبهذا يتبين أن المعترض جازف حين قال: "وكل ما يرد في الأخبار من تكفير الذنوب المستقبلة فهي ضعيفة لتخصيص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم وحده" (386).
وأنبه هنا على ما نبهت عليه في المقدمة من أن المعترض يذكر هنا أحد المقاييس التي يستدل بها على وضع الحديث، فقد ذكر علماء الاصطلاح أن من جملة دلائل وضع الحديث أن يكون منافيا لدلالة الكتاب القطعية أو السنة المتواترة أو الإجماع القطعي (387)، وهذا ما استعمله المعترض في رد حديث مسلم، وهذا يدل على أنه يعتقد أنه حديث موضوع لا أنه ضعيف فحسب مما يعني أن صحيح مسلم فيه أحاديث موضوعة!
المبحث العاشر:
رد إعلال الحديث بدعوى إنكار أهل العلم إياه
قال المعترض في بيان وجوه ضعف الحديث: "الوجه الحادي عشر: بأنه معلول بالضعف؛ لإنكار أهل العلم الحديث" (388).
والجواب أن ما ذكره المعترض فيه مجازفة شديدة، والواقع بخلاف ما ذكره؛ فإن أكثر أهل العلم بل عامتهم لا ينكرون الحديث وإنما يعتقدون ثبوته، ويقولون بمقتضاه فيستحبون صيام يوم عرفة لغير الحجاج.
روى ابن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن عبد الله بن عون عن إبراهيم النخعي أنه قال: "كانوا لا يرون بصوم عرفة بأسا إلا أن يتخوفوا أن يكون يوم الذبح" (389).
وهذا سند صحيح عن إبراهيم النخعي. وقد أدرك النخعي جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لكنه لم يحدث عنهم، وحدث عن جمع من كبار التابعين (390).
وقال الترمذي بعد أن روى حديث أبي قتادة في فضل صوم يوم عرفة: "وقد استحب أهل العلم صيام يوم عرفة إلا بعرفة" (391). فهو هنا نسب القول بالاستحباب إلى أهل العلم، وليس أكثر أهل العلم، أو بعض أهل العلم كما يعبر به في بعض المسائل.
وقال القرطبي: "استحب أهل العلم صوم يوم عرفة إلا بعرفة" (392).
ونقل ابن عبد البر الإجماع على جواز صيام يوم عرفة لغير الحجاج، فقال:
"وقد أجمع العلماء على أن يوم عرفة جائز صيامه للمتمتع إذا لم يجد هديا، وأنه جائز صيامه بغير مكة ومن كره صومه بعرفة فإنما كرهه من أجل الضعف عن الدعاء والعمل في ذلك الموقف، والنصب لله فيه. فإن صيامه قادرا على الإتيان بما كلف من العمل بعرفة بغير حرج ولا إثم" (393).
وقال الطبري في صوم يوم عرفة: "وقد اختار صومه على إفطاره جماعة من الصحابة والتابعين، حتى لقد صامه جماعة منهم بعرفة. ثم قال مبوبا: ذكر من كان يؤثر صوم يوم عرفة على الإفطار فيه، ومن كان يأمر بذلك من الصحابة والتابعين، ثم روى ذلك بأسانيده عن عائشة، والزبير بن العوام، وعثمان بن أبي العاص، والحسن، وسعيد بن جبير" (394).
واتفقت المذاهب الأربعة على استحباب صوم يوم عرفة.
وممن نقل الاتفاق ابن هبيرة فقال: "واتفقوا على أن صوم يوم عرفة مستحب لمن لم يكن بعرفة" (395)
وقال الطحاوي الحنفي: "فثبت بهذا الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الترغيب في صوم يوم عرفة. وهذا قول أبى حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى " (396).
وقال الكاساني الحنفي: "وأما صوم يوم عرفة ففي حق غير الحاج مستحب؛ لكثرة الأحاديث الواردة بالندب إلى صومه، ولأن له فضيلة على غيره من الأيام" (397).
¥