والذي أَراهُ أن (أبا قتادة) الذي في هذا الحديث ليس هو: (أبو قتادة الأنصاريّ)، وإنما هو: (أبو قتادة العدويّ البصريّ)، وهو تابعيّ كبير.
فإسناد عبدالله بن معبد الزماني البصري وحرملة بن أبي إياس البصري عن أبي قتادة البصري، فحصل وهم في نسبة أبي قتادة، فتتابع العلماء قديماً وحديثاً على هذا الخطأ! وأسانيد حرملة لم ينسب فيه أبا قتادة بأنه الأنصاري كذلك.
وعليه فيكون هذا الحديث مرسل؛ لأن أبا قتادة البصري تابعيّ، ولغة الحديث تشبه لُغَةُ المراسيل، والمراسيل تأتي على ما يشتهيه الناس وما يحبونه؛ فجاء في هذا الحديث كلّ أنواع صوم النوافل، وفي بعضها رتّب أجوراً عليها.
وكذلك نزول الإسناد عادة يكون أيضاً في المراسيل، فإذا جمعت كلّ هذه الدقائق الفريدة مع غرابة أن يكون راويه (أبا قتادة الأنصاري المدني) مع توافر تلاميذه، وليس عندهم هذا الحديث، أُرجّح أنه "أبا قتادة البصري، وهو حديثٌ مرسلٌ.
وأبو قتادة هذا تابعي مشهور، وإذا أُطلق دون نسبة عند البصريين فيكون هو.
فقد روى يعقوب الفَسوي عن أَبي بشر، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدّثنا أبي، قال: سمعت حميد بن هلال قال: قال لنا أبو قتادة: "عليكم بهذا الشيخ -يعني الحسن بن أبي الحسن- فإني والله، ما رأيت رجلاً قط أَشبه رأياً بعمر بن الخطاب منه".
ورواهُ أيضاً عن أحمد بن الخليل، قال: حدثنا شريح بن النعمان، قال: حدثنا مهدي بن ميمون، عن محمد بن أبي يعقوب، عن مُوَرِّق العِجلي قال: قال لي أبو قتادة: "الزم هذا الشيخ وخذ عنه، والله ما رأيت رجلاً أشبه رأياً بعمر بن الخطاب منه - يعني الحسن البصري".
وروى الإمام مسلم من طريق أَيُّوب، عَنْ حُمَيْدِ بنِ هِلَالٍ، عَنْ رَهْطٍ مِنْهُمْ أَبُو الدَّهْمَاءِ وَأَبُو قَتَادَةَ قَالُوا: كُنَّا نَمُرُّ عَلَى هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ نَأْتِي عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ ...
ثُم وجدت نصّاً لابن معين يؤيد ما ذهبت إليه –بحمد الله-.
قال العبّاس بن محمد، يقول: قال يحيى بن معين: «أبو قتادة العدوي اسمه: تميم ابن نذير». قال: وسمعت يحيى يقول: «كلّ شيء يُروى عن ابن سيرين، وعن البصريين، عن أبي قتادة، فهو أبو قتادة العَدوي».قلت: لله درّ هذا الإمام الناقد، فقوله هذا يَحسم الأمر إن شاء الله؛ لأن عبدالله بن معبد الزماني وحرملة اللذين رَويا حديث صوم عرفة عن أبي قتادة بصريان.
روى عبدُالرزاق، عن مَعمر، عن أَيوب، عن ابن سيرين، قال: تَعشَّى أَبو قتادةَ فوق ظهر بيتٍ لنا، فرُمي بِنجمٍ، فنظرنا إِليه، فقال: «لا تتبعوه أَبصاركم، فإِنّا قد نُهِينا عن ذلك».
قال الفضلُ بن محمد الشَّعرانيُّ: حدّثنا عمرو بن عون: حدّثنا هُشيم: حدّثنا منصور بن زاذان، عن ابن سيرين، قال: «نَزلَ بنا أبو قتادة، فبينا هو على سطحٍ لنا –قال: ونحن عشرة من ولد سيرين- فانقضَّ كوكبٌ من السماء، فأتبعناه أَبصارنا، فنهانا أَبو قتادة عن ذلك».
قلت: بحسب كلام ابن معين –وهو الصواب- فإنّ أبا قتادة هذا الذي كان في بيت آل سيرين هو أبو قتادة العدويّ، وقد اغترّ أبو حاتم الرازي –رحمه الله- فظنَّ أنه: "أبو قتادة الأنصاريّ الصحابي"، فوهم وهماً شديداً!
قال عبدُالرَّحمن ابنُ أبي حاتم: سمعتُ أبي يقول: "قد سَمعَ ابن سيرين مِنْ أَبي قَتادة الأَنصاريّ حديثاً أنه قال: إذا انقضّ الكوكب فلا تتبعوه أبصاركم. وكان أَبو قتادة نَزل على ابن سيرين".
قلت: كأن أبا حاتم رحمه الله اغتر بما جاء في رواية منصور بن زاذان: "نزل بنا"، فظنّ أنه أبو قتادة الأنصاريّ، وليس كذلك، وإنما هو أبو قتادة العدوي البصري.
والشخص إذا كان بنفس المدينة وزار بيتاً وأقام فيه، فيصلح أن يُقال: "نزل عند فلان"، فهذا اللفظ لا يقتضي أنه كان من بلدٍ آخر، وإنما يقتضي أنه من مكانٍ بعيد، ففهم أبو حاتم من هذا أنه ليس من البصرة، والمشهور عند أهل العلم هو أبو قتادة الأنصاري، فظنّه أبو حاتم هو، فَوَهِم.
ورواية أيوب واضحة في أن نزوله عندهم، أَي زارهم، وهذا يعني أن مسكنه كان بعيداً عنهم، والتنقل في ذلك الزمان كان يحتاج إلى أيام، ولو بالمدينة نفسها، فزارهم، وتعشّى عندهم تلك الليلة، ولو كان أبو قتادة هذا الأنصاريّ الصحابي لما تركه آل سيرين ولسمعوا منه أحاديثاً كثيرة؛ لأنهم بيت علم، ولكان لهذه الزيارة وقعٌ وانتشار عند أهل البصرة.
وروى الترمذيُّ وابن ماجه عن مُحَمَّد بنِ بَشَّارٍ، قالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بنُ يُونُسَ، قالَ: حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ هِشَامِ بنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا وَلِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ)).
قال الترمذيّ: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ".
واغتَّرَ بذلك الحافظُ المزيّ فذكر: أَن ابن سيرين يروي عن أبي قتادة الأنصاري!
والحديثُ مرسلٌ! فأبو قتادة هذا هو العدوي، وهو يُرسل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وهذا الجزء من الحديث محفوظ من طريق آخر صحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكن هناك تكملة له، لا تصحّ، تدلّ على أنه مرسلٌ!!
وهناك والحمد لله أدلة أخرى لا يتسع المجال لذكرها.
هذا والله أعلم وأحكم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
د. خالد الحايك
¥