فهذا جوابه: هو نفس ذلك الجواب الذي رددنا به على ذلك التعنت المذموم في رد رواية عبد الأعلى السامي عن ابن أبي عروبة، لكون أن بعض أصحاب ابن أبي عروبة لم يحفظ ما حفظ الرجل!
وهكذا صار حفظ الحافظين، مردودًا بسكوت الساكتين!
فليس ما أتى به عبد الأعلى السامي عن ابن أبي عروية، وما أتى به ابن أبي عمر عن ابن عيينة = مما يصح أنه يوصف بالمخالفة للمحفوظ من روايات غيرهم! إلا على مذهب من يحلو له تخطئة الثقات من الرواة، فيما يأتون به من صحيح الروايات! متذرِّعًا في كل مرة بأن فلانًا الثقة ما ذكر في روايته مثل الذي ذكره غيره من أقرانه عن شيخهم؟
ولو أنه تبصر وأمعن النظر: لاستبان له أن رواية من يأبى روايته فيها من الزيادة المنبعثة عن مزيد الحفظ والتيقن ما ليس في رواية غيرهم؟
لكن الإنصاف غدا في تلك الأزمان أعزَّ من: (عَنْقَاء مُغْرِبٌ)؟!
ولم يأتنا عن أحدٍ من أهل الحديث: أن أبا قتادة الذي يروي عنه حرملة هذا الحديث ليس بأبي قتادة الأنصاري! كما لم يأتنا مثل ذلك عنهم في رواية عبد الله بن معبد الزماني! اللهم إلا ما يفهم من تلك الرواية عن ابن معين وحده؟ وسيأتي الكلام عليها!
ولذلك: فقد قال الشيخ المحدث الفقيه الواعظ أبو الفتوح الطائي بعد أن أخرج رواية حرملة في رسالته: (الأربعين في إرشاد السائرين إلى منازل المتقين): (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، صَحِيحٌ، عَالٍ. أَوْرَدَهُ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِهِ عَنْ جَمَاعَةٍ بِلَفْظٍ آخَرَ. رواه عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صاحب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفارسه الشجاع المقدام، المخصوص بدعاء رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبُو قتادة الحارث بْن ربعي.).
والعجيب: أن ترى المخالف يقر عدم الخلاف بين أهل الحديث في سائر الأعصار على أن أبا قتادة في إسناد هذا الحديث هو الأنصاري المدني!
فتراه يقول بالحرف: (ومن خلال النظر في تعامل الأئمة في روايتهم لهذا الحديث، وتصنيفاتهم، وجدتهم أنهم على إجماع أن راويه هو أبو قتادة الأنصاريّ)!
فالحمد لله: أنه يشهد على نفسه بكونه الخارج عن إجماعهم! والفاتق لِرَتْقِ اتفاقهم! والمنفرد دونهم بما لم يفُهْ به قبله الثقلان! والمتجرِّأ على قول ما لم يقله دونه إنسٌ ولا جآن؟
2 - والقرينة الثانية: ما أخرجه الحميدي في (مسنده) وعنه أحمد بن زهير في (تاريخه): ثنا داود بن شابور قال: (كان عطاء لا يصوم يعني يوم عرفة حتى بلغه هذا الحديث). يعني حديث حرملة بن إياس عن أبي قتادة في فضل صيام يوم عرفة.
قلت: فلو لم يكن الحديث ثابتًا موصولا عند عطاء ما كان ليهرع إلى صوم ذلك اليوم بعد أن سمع ما رود في فضله مما صح عنده؟
وأخرج أبو الفضل الزهري في (حديثه) ومن طريقه علي بن الحسن ابن هبة الله الحافظ في (فضل يوم عرفة) وأبو أحمد الجرجاني في (كامله) بإسناد ضعيف عَنْ عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، أَنَّهُمَا قَالَا فِي صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ: (مَا كُنَّا نَصُومُهُ حَتَّى حَدَّثَنَا مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَوْمُ عَرَفَةَ أَجْرُ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَنَافِلَةٌ لِلسَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ»).
قلت: وهاتان القرينتان زائدتان عن سائر النصوص الواضحة التي ذكرناها في إثبات أن أبا قتادة في سنده هو الصحابي الأنصاري دون سواه!
لكنْ: هناك من الناس من يَلْوِي عن تلك العرائس المَجْلُوَّة كشْحًا! ولا يرضيه أن يَعْقِد ولو على رأي العامريَّة صُلْحًا! مُسْتَنْصِرًا لرأيه بقولٍ مأثور عن أبي زكريا ابن معين، ظن أنه يستطيع أن يدرأ به في نحور أدلة أساطين حفاظ الأمة من حُذاق المحدثين!
وهذا القول المأثور: هو ما حكاه العباس بن محمد الحافظ فقال: (سمعت يحيى- وهو ابن معين - يقول: كل شيء يروى عن ابن سيرين وعن البصريين عن أبي قتادة فهو أبو قتادة العدوي).
فطار المخالف بتلك الجملة في سائر الأقطار كل مَطَار! واتخذ منها زَوْرَقًا جعل يسْبح به في بحار الأخطار! بتوهيمِه حفاظَ الأرض بما فهمه من تلك القالة! وتَغْليطِه سادةَ الأمة بما تعلق به عن طريق هاتيك العبارة!
¥