واستباح لنفسه أن يتَّكِأ على تلك الجملة: بأن يرمي بأقوال عشرات الحفاظ حوائط أهل الدنيا! وظن أن اللائمة بدونه في هذا الصدد هي الأحرى والأوْلَى!
وما كان له أن يميل بِزَنْده على تلك الرواية كل الميْل، ولا أن يأنس بالتعويل عليها فربما تأطَّمَ عليه السَّيْل!
لكنه أبى إلا أن يتخذ من قول ابن معين قارعة يقصم بها ظهور المخالفين، من حفاظ أهل الحديث طوال آلاف الشهور ومئات السنين!
وحَسِبَ أنه بما ركَّبه على كلام ابن معين من التعاظل في ألوان معاني كلامه المُبْتَكَر، وبما جعل يُصاقِب به بين ألفاظه بما لا ينفق مثله عند أهل الحِذْقِ والفِكَر = أنه قد قضى قضاءه المبرم على غيره في هذا الباب، وألقم المعارضين حجر الإفحام فانقطعتْ عليهم سبل الأخذ والرد كما وُقِصَتْ أعناقُهم دون بلوغ هاتيك الأبواب!
وما علم أن مقالة أبي زكريا الغطفاني الحافظ يعارضها من ثابت الأقوال، ما لم يخطر له على بال!
فنسيَ أو تناسَى:
1 - أن قول ابن معين هذا غاية ما فيه أنه ينفي علمه وحده بذلك وحسب! وهذا ظاهر جدًا من منطوق عبارته، فلم ينَسْبْ كلامه هذا إلى جماعة الحفاظ من أقرانه وشيوخه قط! وإنما هو رأيٌ رآه عن علم ومعرفة. ولا نرتاب في ذلك أصلا! لكن: حفظ غيره في هذا المقام ما لم يحفظ، ووقفوا على ما لم يقف.
ولعل عذره في ذلك: أن رواية البصريين غير مشهورة إلا عن أبي قتادة العدوي وحده! كأنه ما وقع له رواية عبد الله بن معبد الزماني وغيره من أهل البصرة عن أبي قتادة الأنصاري! فلذلك قال ما قال!
ولو أنه وقف على تلك الرواية هنا: ما كان يسكت عنها في ذلك المقام أصلا! لا سيما والأمر يتعلق بحديث قد اشْتُهر تفرد البصريين به عن أبي قتادة الأنصاري!
فكيف يكون أبو زكريا على علم به ثم يسعه ذلك الصمتُ عن بيان ذلك الوهم العجيب الذي وقع لبعضهم في نسبة الحديث إلى أبي قتادة الأنصاري؟ وهو يعلم أن البصريين لا يروون إلا عن أبي قتاد العدوي وحسب!؟ هذا أولا.
2 - وثانيًا: كيف غفل المخالف أو تجاهل صحة نزول أبي قتادة الأنصاري البصرة!؟ بل وزعم- بلسان حاله - أنه لم يأت البصرة قط!
وقوله هذا: محجوج بقول غير واحد من العلماء والمؤرخين جزموا: بأن أبا قتادة قد شهد المشاهد مع أبي الحَسَنَيْنِ علي بن أبي طالب. حتى جزم بعضهم بأنه توفي بأرض الكوفة أيضًا!
ولا علينا إن كان قد توفي بالكوفة أو بالمدينة! أو مات في زمن عليٍّ أو بعده! إنما علينا إثبات شهوده المشاهد مع علي بن أبي طالب وحسب. وإن كان الراجح موته بعد علي بدهر.
وابتدءًا: لم يثبت أن أحدًا من أهل الدنيا قد نفى دخول أبي قتادة البصرة البتة! اللهم إلا ما فاه به المخالف في تلك الأعصار المتأخرة وحسب!
قال مؤرخ وقته الحافظ الإمام الحجة الحسن بن عثمان الزيادي في (تاريخه): (مات أبو قتادة سنة أربعين، وشهد أبو قتادة مع علي مشاهده كلها في خلافته).
وقال أبو بكر ابن ثابت الحافظ في (تاريخه): (عاش إلى خلافة علي بن أبي طالب وحضر معه قتال الخوارج بالنهروان وورد المدائن في صحبته).
وقال الشمس ابن الذهبي الحافظ في (تاريخ الإسلام): (وشهد مع علِيّ مشاهده كلها).
قلت: وليس هناك خلاف بين أهل التاريخ: أن وقعة (الجمل) الكائنة سنة ست وثلاثين للهجرة إنما كانت بمكان يسمى: الزّابُوقَة - على وزن فاعولة - وهو موضع قريب من البصرة، ثم بعد انتهاء المعركة نزل أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - البصرة فبايعه أهلها، ثم مكث فيها ما شاء الله إلى أن انصرف منها.
فإذا صح أن أبا قتادة قد شهد الجمل مع علي: فلا بد أن يكون قد نزل معه البصرة، وهناك سمع منه عبد الله بن معبد الزماني هذا الحديث الشريف في فضل صيام يوم عرفة.
وبهذا التقرير: صحح مسلم والنسائي وحفاظ الإسلام هذا الحديث قديمًا وحديثًا.
3 - ثم تتابُعِ الحفاظ والمحدثين جيلا فجيلا على ثبوت هذا الحديث ونِسْبَتِه إلى أبي قتادة الأنصاري = فيه من زيادة العلم ما لم يقع مثله لابن معين فيما حُكِيَ عنه؟
فبمجموع تلك الأمور الثلاثة: يندفع التعلق بقول ابن معين رأسًا عند من أنصف ولم يتعسف!
لكن في الناس: من تراه مغرمًا بالتعلق بأي شيء ولو بحبال القمر! للنفاح عما هو بسبيل النفاح عنه!
¥