وهذا يحتمل أنه يُقبل حديثه إلا ما كان فيه تقوية لبدعته –وهو الظاهر من كلامه- وهو قول ضعيف لأن رواية ما فيه تأييد للبدعة إن لم يكن بافتعال أو خطأ فلا وجه لردِّه والله أعلم.
ويحتمل أن يكون المراد: أن حديثه كله مردود وهو ما فهمه ابن حجر كما في شرح النخبة: (الأكثر على قبول غير الداعية إلا أن يروي ما يقوي مذهبه فيرد على المذهب المختار، وبه صرح الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني)!!!!
ولا أدري هل أُعلَّق؟! أم أدعُ كلامَ الحاج عيسى وحدَه ينادي على نفسه بالتناقض في أجلى صوره!!
فكلام الجوزجاني وابن حجر صريحان في قبول رواية المبتدع ما لم يقوَّ بدعته!
وإذا كان قبول رواية المبتدع إلا ما وافق بدعته = قولاً ضعيفاً، فما بالك بالقول إن حديثه كلَّه مردود؟!! أليس أولى بالضعف؟! فلماذا ننسب لإمام حافظٍ عالمٍ بأسباب الجرح والتعديل أسوءَ القولين؟! بل وأبعدهما عن منطوق قوله و مفهومه؟!! بل وننسب ذلك الفهمَ الغريبَ إلى الحافظ ابن حجر! وهو مِن أبعد الناس عن تبنِّيه وعن نسبته للجوزجاني!!
وعلى كلِّ الأحوال فمن أراد نسبة قولٍ للجوزجاني في رواية المبتدع فلن يجد أصدق من كتابه (أحوال الرجال)، فهو المنطلق الأول الذي لا يحقُّ أن يسبقه أي كتابٍ آخر عند الكلام عن مذهبٍ للجوزجاني.
وهذه نصوص صريحة منه تدل دلالة قاطعة على أن الجوزجاني لم يكن يردُّ رواية المبتدع مطلقاً ولو كان داعيةً.
قال الجوزجاني عن سالم بن عجلان الأفطس: (كان يخاصم في الإرجاء داعية وهو متماسك).
وقال عن الشيعة: (وكان قوم من أهل الكوفة لا يحمد الناس مذاهبهم هم رؤوس محدثي الكوفة مثل:
أبي إسحاق عمرو بن عبدالله، ومنصور، والأعمش، وزبيد بن الحارث اليامي، وغيرهم من أقرانهم احتملهم الناس على صدق ألسنتهم في الحديث، ووقفوا عندما أرسلوا لما خافوا ألا تكون مخارجها صحيحة.
فأما أبو إسحاق فروى عن قوم لا يعرفون، ولم ينتشر عنهم عند أهل العلم إلا ما حكى أبو إسحاق عنهم، فإذا روى تلك الأشياء التي إذا عرضها الأئمة على ميزان القسط الذي جرى عليه سلف المسلمين وأئمتهم الذين هم الموئل لم تتفق عليها = كان الوقف في ذلك عندي الصواب، لأن السلف أعلم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأويل حديثه الذي له أصل عندهم.
وقال وهب بن زمعة: سمعت عبدالله يقول: إنما أفسد حديث أهل الكوفة الأعمش وأبو إسحاق. قال إبراهيم: وكذا حدثني إسحاق بن إبراهيم حدثنا جرير سمعت مغيرة يقول غير مرة: أهلك أهل الكوفة أبو إسحاق وأعيمشكم هذا.
قال إبراهيم: وكذلك عندي مَن بعدهم إذ كانوا على مراتبهم من مذموم المذهب وصدق اللسان. فكان أبو نعيم كوفي المذهب صدوق اللسان ....
وخالد بن مخلد كان شتَّاماً مُعلناً بسوء مذهبه، وأمثالهم كثير، فما روى هؤلاء مما يقوي مذهبهم عن مشايخهم المغموزين وغير الثقات المعروفين فلا ينبغي أن يغتر بهم الضنين بدينه الصائن لمذهبه، خيفة أن يختلط الحق المبين عنده بالباطل الملتبس، فلا أجد لهؤلاء قولا هو أصدق من هذا).
وقال: (ابن الأصبهاني كان صدوقاً في حديثه على سوء مذهبه).
وقال: (إسماعيل بن الحكم على قضاء همذان رأس سنة اثنتين وثلاثين كان مائلاً، صدوقاً في حديثه).
وقال عن القدرية:
(وكان قوم يتكلمون في القدر منهم من يزن ويتوهم عليه احتمل الناس حديثهم لما عرفوا من اجتهادهم في الدين وصدق ألسنتهم وأمانتهم في الحديث لم يتوهم عليهم الكذب وإن بلوا بسوء رأيهم فمنهم قتادة .... والدستوائي وكان من أثبات الناس .... وعبدالوارث بن سعيد وكان من أثبت الناس).
و قال عن محمد بن راشد: (كان مشتملا على غير بدعة، وكان فيما سمعت متحرياً الصدق في حديثه).
ومَن أراد المزيد فليراجع مقدمة المحقق الدكتور عبد العليم البستوي ففيها توسع أكثر.
ـــــــــــــــــــــ
وخلاصة كلِّ ما سبق:
ليس مرادي من هذه التعليقات تحريرَ هذه المسائل التي تناولها الحاج عيسى، وإنما مرادي الأول والأخير: أن يعلمَ الحاج عيسى أن طالبَ العلم ليس بحاجة إلى أقوالٍ مجرَّدةٍ، فعنده من الأقوال ما يكفيه، وإنما ضالته التي يبحث عنها هي: الدليلُ والتعليلُ، والجوابُ عن دليلٍ قائمٍ للقول الآخر. وقد بيَّنتُ في هذه التعليقات ما يكتنفُ هذه المسائل من قضايا وسؤالاتٍ وإشكالاتٍ لا يسعُ من أراد أن يكتبَ ردَّاً على مخالفه فيها إلا أن يبحثها ويقول قولَه فيها. وما دون ذلك من القول فليس مقامه مقام الرد والتعقيب، وإنما مقام التقرير والتأصيل للمبتدئ الذي لم يتأهل لفهم الدليل والتعليل.
فما الجديد الذي أتحفنا به الحاج عيسى حينما أخبرنا أن للشيخ حاتم قولاً في مسألة، وأن له هو قولاً يخالف به الشيخ حاتم؟!!
ما الجديد؟
أم الجديد هو تعقُّب الشيخ حاتم الشريف للتعقُّب فقط؟!
ختاماً: أرجو من الحاج عيسى رجاءين:
الأول: أن يحترمنا معشرَ طلاب العلم، فإنْ لم يكن عنده جديد فليس ملزماً بالكتابة، وإنما يسعه أن يجمع أقواله في متنٍ صغيرٍ يقتصر فيه على أقواله المجرَّدة.
الثاني: ألا يشغل نفسه بالحذر من تسخين المكان وتكثير الزحام، ولكن ليشغلها بالإنصاف والعدل مع مَن أكرمه وأحسن ضيافته!
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
¥