تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فانتقل إلى القاهرة يعقوب صرَّوف، وفارس نمر، صاحبا "المقتطف"، كما انتقل إليها جرجي زيدان صاحب "الهلال". وكلاهما قد تخرج في الكلية البروتستنتية السورية، التي سميت من بعد "الجامعة الأمريكية". ثم تبِعَهُم آخرون مِمَّن أسَّسوا صُحُفًا ومجلات، أو شاركوا في تحرير الصحف التي أنشأها صرَّوف ونمر وزيدان.

اهتمت مجلة "المقتطف" بالعلوم الطبيعية، وبالكشوف العلمية والصناعية الحديثة، بينما اتجهت "الهلال" إلى الدراسات الإنسانية، من أخلاق واجتماع وتاريخ ولغة وأدب وآثار. وعملا في تعاون كما يعمل شِقّا المقراض على تطوير الفكر الإسلامي وإشرابه الروح العلمانية التحررية، التي سادت أوروبا في القرن التاسع عشر، التي تعتبر العلم بمعناه الغربي الحديث الذي يقوم على التجرِبة وعلى منطق البحث العقلي، لونًا من العبادة التي تستحق أن يكرس لها الإنسان عمره، والتي يجب أن تقوم مقام الدين في التمييز بين الخير والشر، بناء على نظم إنسانية عالمية يلتقي عندها أفراد البشر جميعا، بإقرار العقل لما تتضمَّنه من الأفكار، ومن المبادئ الخلقية [12] ( http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?CategoryID=80&ArticleID=2272#_ftn12).

وقد تجنَّبت المجلتان كل ما يتصل اتصالاً مباشرًا بالسياسة المحلية أو الدين، ولكنهما كانتا تسيران على تخطيط ثابت مدروس تَخفى آثاره على غير المدقق البصير، وتعملان في بطء دَؤُوب على الوصول إلى أهدافهما. فكان كُلُّ ما يَنْشُرَانِه يُقِرّ في أذهان القرَّاء ويعمّق في وعيهم تصورًا جديدًا للحق: ما هو؟ وكيف ينبغي أن نبحث عنه؟ وماذا يجب على القارئ العربي أن يعرف لكي يصل إليه؟ هذا التصور الجديد يقوم على أنَّ العلوم أساس الحضارة الصحيحة، وأن العلوم والمذاهب التي تتضمَّنها الحضارة الغربية ذات قيمة عالمية، وأن من الممكن إيجاد نظام أخلاقي اجتماعي يستند إلى هذه الكشوف والمذاهب الجديدة، التي هي السر في قوة الغرب الاجتماعية وأن أساس هذا النظام الأخلاقي الجديد هو الوطنية، وأنَّ هذه الرابطة يجب أن تتقَدَّم على سائر الروابِط الأخرى، حتى الدينيَّة [13] ( http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?CategoryID=80&ArticleID=2272#_ftn13). وأنَّ التصوُّرات الأخلاقية والاجتماعية القديمة، التي تقوم على الإيمان وعلى الدين، أو ما يسمُّونه (الميتافيزيقا) أو (العقلية الغيبية)، ليست إلا طوْرًا من أطوار البشرية في طفولتها الأولى، لا تلبث أن تتخطاه، حين تستقلَّ بنفسها وتستغني بعقلها.

وكان يؤكد هذا الاتجاه ويقوّيه عددٌ آخر من صحف ومجلات أقل نفوذًا وانتشارًا، مثل: الجامعة لفرح أنطون، وطائفة من الكتب التي تدور حول النظريات العلمية والمذاهب الاجتماعية والأخلاقية والتربوية الجديدة، التي تقدم صورًا جديدة من البطولة ومن الأبطال من مختلف الأجناس والنِّحَل، تزاحم على مضي الزمن صور البطولة الإسلامية وأبطال المسلمينَ، وتصبح من حيث يشعر قُرَّاؤها، ومن حيث لا يشعرون قدوة تُحْتَذَى، ومثالا ينسج على مِنْوالِه.

كانت هذه التيارات الثلاثة تتفاعل متعاونة في السيطرة على المجتمع، وفي مصارعة الاتجاه الإسلامي المحافظ، الذي كان يتخلَّى يومًا بعد يوم عن مكانه وعن وظيفته. وليس الخطر الذي يُهَدِّدُ المجتمع الإسلامي ناشِئًا عن هذا الصراع، فالصراع بين الأصيل والدخيل سُنَّة من سنن الله العليم الحكيم، يضرب فيها الحقَّ والباطل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17].

ليس هذا الصراع إذن مصدر خطر؛ بل إنه – في تقديري - يدعو إلى التفاؤل والاطمئنان. ولكن مصدر الخطر وعلامته هي أن يزول هذا الصراع، وأن يفقد الناس الإحساس بالفرق بين ما هو إسلامي وما هو غربي. إنّ فُقْدَان هذا الإحساس هو النذير بالخطر؛ لأنه يعني فُقْدان الإحساس بالذات. فالجماعات البشرية إنما تدرك ذاتها من طريقينِ معًا: من طريق وحدتها التي تكونها المفاهيم والتقاليد والمشتركة، ومن طريق مخالفتها للآخرين التي تنشأ عن المُغايَرة والمُفَارقَات. ولذلك كان الخطر الذي يَتَهَدَّد هذه الوحدة يأتيها من طريقينِ: الشعوبية التي تفتنها، والعالمية التي تُمَيِّعُها، فزوال الإحساس بالمغايرة والمفارقة هو هدم لأحد الركنينِ

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير