"إنني أرغب في الرحيل إلى الآخرة، والمثول بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. لذلك فإنني بحاجة فقط إلى جواز سفر للآخرة، وأنا لا أستطيع أن أعمل بما يخالف إيماني".
وتصدر المحكمة قرارها بالإعدام، وفي يوم التنفيذ تحضر ثلة من الجنود على رأسها ضابط روسي لأخذه إلى ساحة الإعدام، ويقوم سعيد النورسي من مكانه بابتهاج قائلاً للضابط الروسي:
- أرجو أن تسمح لي قليلاً لأؤدي واجبي الأخير.
ثم يقوم ويتوضأ ويصلي ركعتين.
وهنا يأتي القائد العام ليقول له بعد فراغه من الصلاة:
- أرجو منك المعذرة، كنت أظنك قد قمت بعملك قاصداً إهانتي ولكنني واثق الآن أنك كنت تنفذ ما تأمرك به عقيدتك وإيمانك، لذا فقد أبطلت قرار المحكمة، وإنني أهنئك على صلابتك في عقيدتك، وأرجو المعذرة منك مرة أخرى.
- في 13/ 8/ 1918 عُيِّنَ عضواً في (دار الحكمة الإسلامية) التي كانت تضم كبار العلماء والشعراء والشخصيات في إستانبول.
وقررت له الحكومة مرتباً، ولكنه ما كان يأخذ منه إلا ما يقيم أوده، والباقي ينفقه على طباعة رسائله العلمية التي كان يوزعها مجاناً.
- وبعد أن احتل الحلفاء (الإنكليز والفرنسيون) العاصمة إستانبول، ألَّفَ النورسي كتابه (الخطوات السّتّ) وحَكَمَ عليه الحاكم العسكري الإنكليزي بالإعدام على هذا الكتاب، وعلى نشاطه المعادي للقوات المحتلة، وأراد محبوه إنقاذه، فدعوه إلى (أنقرة) فأجابهم:
"أنا أريد أن أجاهد في أخطر الأمكنة، وليس من وراء الخنادق. وأنا أرى أن مكاني هذا أخطر من الأناضول".
- دُعِيَ إلى أنقرة سنة 1922 واستُقْبِلَ في المحطة استقبالاً حافلاً، ولكنه لاحظ أن أكثر النواب لا يصلّون، كما أن مصطفى كمال يسلك سلوكاً معادياً للإسلام، فقرر أن يطبع بياناً تضّمن عشر مواد، وجهه إلى النواب، واستهله بقوله:
"يا أيها المبعوثون .. إنكم لمبعوثون ليوم عظيم".
وكان من أثر هذا البيان الذي ألقي على النواب، أن ستين نائباً قاموا لأداء فريضة الصلاة، والتزموا الدين، الأمر الذي أغضب مصطفى كمال فاستدعى النورسي وقال له:
"لاشك أننا في حاجة ماسة إلى أستاذ قدير مثلك، ولهذا دعوناك إلى هنا للاستفادة من آرائك السديدة، ولكن أول عمل قمت به هو الحديث عن الصلاة .. لقد كان أول جهودك هنا هو بث الفرقة بين أهل المجلس".
فأجابه بديع الزمان، مشيراً إليه بإصبعه في حدّة.
"باشا .. باشا .. إن أعظم حقيقة تتجلى بعد الإيمان هي الصلاة، وإن الذي لا يصلي خائن، وحكم الخائن مردود".
عندها فكّر مصطفى كمال بإبعاده عن العاصمة، فعيَّنه واعظاً عاما للولايات الشرقية، وبمرتب مُغْرٍ، ولكن النورسي رفض الوظيفة والراتب.
كتب النورسي ونشر في هذه المرحلة عدة كتب ورسائل منها: إشارات الإعجاز- والسنوحات- والطلوعات- ولمعات وشعاعات من معرفة النبي صلى الله عليه وسلم وسواها باللغة العربية.
المرحلة الثانية من حياته:
في عام 1923 غادر النورسي مدينة أنقرة إلى مدينة "وان" حيث انقطع للعبادة في إحدى الخرائب المهجورة على جبل "أرك" ولم يدر شيئاً عن الأعاصير التي تنتظره.
وجاء من يدعوه إلى تأييد ثورة الشيخ سعيد بيران ضد الحكومة الكمالية العلمانية المعادية للإسلام، فأبى تأييدها، ولكن هذا الموقف، وذلك الانقطاع للعبادة، لم ينجياه من غضب حكومة أنقرة التي أمرت بالقبض عليه، ونقله إلى إستانبول، ومن ثَمَّ إلى مدينة "بوردور" ثم إلى "بارلا" في جو بارد من شتاء عام 1926 القارس، فقد كان الجو باردا، ومياه البحيرة متجمدة وأحد جذافي القارب الذي يحمله إلى منفاه في المقدمة يكسر الثلوج بعصا طويلة في يده، ليفتح بذلك طريقا للقارب الشراعي.
وفي بارلا بدأت المرحلة الثانية من حياة بديع الزمان، وهي المسماة مرحلة سعيد الجديد وقد كانت حافلة بالاتهامات والملاحقات والمطاردات والسجون والمعتقلات والمحاكمات والمنافي، مما لم يمر في حياة إنسان وهو صابر محتسب، يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، شعاره في ذلك:
"أعوذ بالله من الشيطان والسياسة".
¥