مُساجلة في السِّواك
ـ[محمد سعد]ــــــــ[06 - 05 - 2008, 12:00 ص]ـ
عن يميني بشار بن برد والذي أمامي ابن الرومي وأمامه ابن الوردي وهناك قريبا من جذع الشجرة أبو حيان الأندلسي ... وقبل أن أتم جولة بصري فيهم سمعت ابن الرومي يقول لبشار: فما تقول يا بشار في السواك؟
استغربت من سؤاله , بل استغربت أكثر حينما قال بشار:
هنيئاً لمسواكِ الأراكةِ إذ جرى =بثغرك واِستولى رضاب لماكِ
لَمّا أَتَتني عَلى المِسواكِ ريقَتُها =مَثلوجَةَ الطَعمِ مِثلَ الشَهدِ بِالراحِ
قَبَّلتُ ما مَسَّ فاها ثُمَّ قُلتُ لَهُ =يالَيتَني كُنتُ ذا المِسواكَ يا صاحِ
فأتبعه ابن تمرداش:
أقول لمسواك الحبيب لك الهنا =برشف فم ما ناله ثغر عاشق
فقال وفي أحشائه حرقة الجوى =مقالة صب للديار مفارق
تذكرت أوطاني فقلبي كما ترى =أعلله بين الغديب وبارق
فأعجبني حالهم , وطربت وقد غمرتني فرحة ما ظننت أجدها هنا ونسيت تعبي
فسمعت بشارا يعاود فيقول:
يا أطيب الناس ريقاً غير مختبر =إلاّ شهادة أطراف المساويك
ثم قال أبو الفتح البستي وكان أقربهم إلي:
قد تمنَّيْتُ أن أراكَ فلّما =أنْ رأيْتُ الأراكَ قلْتُ أراكا
وتخوَّفْتُ أنَّهُ لسِواكَ =أن يكونَ الّذي أراه أراكا.
ثم سكن القوم يتضحاكون ويتغامزون.
ثم قام رجل لا أعرفه على ركبتيه لافتا نظر الجميع إليه وهو يبتسم ويقول:
اِستاكَ بِالمِسواكِ خالي اللّمَى =وَقَبَّلَ المِسواك منهُ الشّفاهْ
فَأَورَقَ المِسواك مِن حينِهِ =وَقالَ إِذ قَد مالَ فَخراً وَتاه
إِنْ صِرتُ مِنْ ذا خَضِراً لا اِمترا =أَما شَرِبت ماءَ عَينِ الحَياه
كدت أقف من شدة الطرب والجميع يكبر ويسبح طربا مستمتعين.
ثم سكن الجميع فقال ابن الرومي لابن الوردي: وأنت يا ابن الوردي ما عندك؟
فسكت الجميع وهم ينظرون إليه على وجوههم سحنة خشوع, فقال ابن الوردي وأمارات السخرية على وجهه بادية:
قالتْ وناولْتُها سواكا =سادَ بفيها على الأراكِ
سوايَ ما ذاقَ طعم ريقي =قلت بلى ذاقه سواكي
فتنهد الجميع وتنهدت معهم. ثم قام أبو معصوم واقفا هذه المرة, نعم هو ابن معصوم, أعرفه جيدا , فقلت: ما جمع هذا بهؤلاء؟
فأنشد مترنما وهو يتمايل:
ما ذقتُ موردَها ولكن هَكَذا =نقلَ الأَراكُ وحدَّث المِسواكُ
فتابعه اللخمي وقال: عندي مثله ثم أنشد:
وما ذقت فاها غير أني رويته =عن الثقة المسواك وهو موافيها
فضحك الجميع. ثم التفت بشار إلى ابن الرومي يقول: وأنت يا ابن الرومي أنشد:
فأنشد في الحال وكله ثقة:
تعنّت بالمسواك أبيض صافياً =يكاد عذاري الدرّ منه تحدّر
وما سرّ عيدان الأراك بريقها =تأوّدها في أيكها تتهصّر
وما ذقته إلاّ بشيم ابتسامها =وكم مخبر يبديه للعين منظر
طأطأ الجميع رؤوسهم وكان أثرها مخدرا. فأخرجهم من ذا أبو العباس بن العريف الزاهد بقوله:
فاح النّدىّ بنطقي فتنازعوا =أبإسحل أستاك أم بأراك
هيهات عهدي بالسّواك وإنما =شفة الحبيب جعلتها مسواكي
وكأنما عادت إليهم الحياة فصاح بعضهم ... ورمى البعض الآخر عمامته ... واستلقيت أنا على ظهري من شدة الطرب.
اِستاكَ بِالمِسواكِ رب البها =فارتشف الصهباء خَلف الشّفاهْ
قالَ وَقَد أَورَق مِن ريعةٍ =لا تَعجَبوا شَرِبت ماءَ الحَياه
سمعتها ولم أدر من قالها فكدت أجن, فسألت الله أن يثبتني.ثم جلست. وبادرني محي الدين ابن قرناص فقال:
سألتك يا عود الأراكة إن تعد =إلى ثغر من أهوى فقبله مشفقا
ورد من ثنيات الغديب منيهلا =تسلسل ما بين الأبيرق والنقا
ثم صمت الجميع وانتبهت إلى أنهم يلاحظونني.وكأنهم ما رأوني إلا الآن, أو أنهم لم يرضوا بسكوتي.وكأن شرط المنادمة الإنشاد ,فأشار إلي أحدهم: شاعر أو متطفل؟.
لم أدر كيف لكنني قلت:
قد فزت يا عود الأراك بثغرها =ما خفت يا عود الأراك أراك
لو كنت من أهل القتال قتلتك =ما فاز مني يا سواك سواك
فتعالى تكبيرهم , وقام بعضهم يزفن كالأحمق, وبعضهم انزوى يبكي! ... ما أدري ما هؤلاء؟! .. وربت بعضهم على كتفي قائلا:أهي لك؟
قلت: تنسب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه, فسكت الجميع تأدبا. وصرخ ابن معصوم: مرحا مرحا بالمحب!
ما أدري ما قصد وإن كنت أشك أنه ظن فيَّ غير ما أنا عليه. ثم عاد الجميع إلى ما كانوا عليه فأنشد ابن حمديس وكان عن يسار بشار:
وما ذُقتُ فاها وَلَكِنَّني =نَقَلْتُ شهادَةَ عُودِ الأراك
وتتابع الجميع فقال ابن الرومي
وما سرَّ عيدانَ الأراك برِيقها =تَناوُحها في أيكها تتهصَّرُ
فتبعه أبو الشيص الخزاعي منشدا
وَتجيلُ مِسواك الأراك عَلى =رَتلٍ كأنَّ رُضابه الشُّهدُ
ثم قال أبو حيان:
وَتَجلو لآلي ثَغرِها وَتمجّها =جَنى شَهدَةٍ أَضحى الأَراك يَشورُها
وقال أيضا:
هنيئاً لمسواكِ الأراكةِ إذ جرى =بثغرك واِستولى رضاب لماكِ
وها هو الشماخ الذبياني يقول:
تَميحُ بِمِسواكِ الأَراكِ بَنانُها =رُضابَ النَدى عَن أُقحُوانٍ مُفَلَّجِ
ثم تبعه الأبيوردي وأنشد
وَحدَّثَني أَترابُها أَنَّ ريقَها =عَلى ما حَكى عودُ الأراكِ لَذيذُ
وتتابعوا منشدين مترنمين.ولا أخفي أنني صرت أتمايل مع كل بيت حتى خفت على نفسي.فبادرت بالقيام.ثم استأذنتهم فأذنوا لي غير آبهين بانصرافي وهم على حالهم ... غريب أمرهم ... وقمت , وعدت إلى المكان الذي كنت اخترته لأنام, فوضعت رأسي فنمت سريعا. ما أدري كم نمت, لكنني استيقظت على صوت زوجتي وهي تزيل عني المسند من فوق صدري. فجلست أزيل عن عيني أثر النوم ثم أقبلت علي مرة ثانية مبتسمة وفي فمها عود أراك وهي تسألني غير مبالية: كنت طوال نومك تحرك شفتيك بشيء. ما الذي رأيت؟ ابتسمت ... وأنا أنظر إلى السواك في فمها ... !
هكذا حكى لي صاحبي ... !
(منقول)
¥