السُّخريةُ عند المعريّ
ـ[محمد سعد]ــــــــ[13 - 06 - 2008, 08:55 ص]ـ
السخرية عند المعري موقف من العالم، يهجو نقائصه يركز الضوء على أبرز مفارقاته .. موقف يُدمي الروح في اللحظة ذاتها التي يضحك فيها الكائن البشري على ضعفه وتخاذله قبل أن يضحك بسببها على الآخرين وفي مأثورنا العربي (شر البلية ما يضحك) البلية في كل زمان ومكان من حولنا التي قد نواجهها بأسلحة متعددة ومنها السخرية التي هي أعرق أسلحة البشر وألطفها.
وحين تأتي السخرية من أمثال المعري يسمو الإعجاب إلى درجة عالية، إذ ليس هنا ما هو أشد من سجون أبي العلاء الثلاثة التي عبر عنها بقوله:
أراني في الثلاثة من سجوني = فلا تسأل عن النبأ الخبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي = وكون النفس في الجسم الخبيث
لأنه كان من الممكن لهذه السجون أن تؤدي ـ كما كان متوقعاً ـ إلى مزاج سوداوي أو غضب عارم على البشر أو مرارة تفحّ بسمومها في وجه الآخرين ..
بالعكس إن هذه السجون طهرته من أوضار الحياة وجعلته أبعد ما يكون عن هوس الدنيا وفتنتها، كما جعلته أبعد عن أشراكها.
هذه السجون قادته مع الميل القابع فيه إلى الفلسفة، قادته إلى الحقيقة الإنسانية المتمثلة في التجرد (العزلة) والمشاركة فقد أصبح اتساع عقله الرحب المتفتح ووجدانه الخصب الممتلئ لكل ما يشمل الآخرين صفةً من أبرز صفات المعري وتوجهاً أساسياً يفيض عنه:
فأي الناس أجعله صديقاً = وأي الأرض أسلكه ارتيادا
كأني في لسان الدهر لفظٌ = تضمن منه أغراضاً بعادا
يكررني ليفهمني رجالٌ = كما كررتَ معنىً مستعادا
ولو أني حُبيتُ الخلد فرداً = لما أحببتُ بالخلد انفرادا
فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي = سحائب ليس تنتظم البلادا
ولي نفسٌ تحلُّ بي الروابي = وتأبى أن تحل بي الوهادا
ـ[محمد سعد]ــــــــ[13 - 06 - 2008, 09:05 ص]ـ
السخرية من شعراء التكسب
يسخر شاعرنا من شعراء التكسب فلا يسلم أحد من صورة ساخرة نالته يقول:
تكسب الناس بالأجساد فامتهنوا=أرواحهم بالرزايا في الصناعات
وحاولوا الرزق بالأفواه فاجتهدوا=في جذب نفع بنظمٍ أو سجاعات
ويعتبر المتكسب بالشعر إهانة أو وصمة عار على جبين الشعر الحقيقي:
ومغرم بالمخازي طالب صلة =مغرى بتنفيق أشعار له كسد
ويقول: إذا سار شعر التكسب وانتشر بين الناس فإن الشعر الحقيقي يُصاب بالكساد:
يحق كساد الشعر في كل موطن=إذا نفقت هذي العروض الكواسد
ـ[أحمد الغنام]ــــــــ[13 - 06 - 2008, 10:07 ص]ـ
لله درك أخي محمد،وقفات لطيفة تناولها قلم رائع، نطمع بالمزيد من هذه الوقفات واللمسات المضيئة حول خبايا النفس البشرية عند المعري.
ـ[محمد سعد]ــــــــ[13 - 06 - 2008, 10:28 ص]ـ
أخي أحمد أشكر لك هذا المرور الذي يزيدنا حبا لك
ونحن منكم نكتسب المعرفة. والمعري بتلويناته وفلسفته يأسرك
وننتظر منك إغناء الموضوع فأنت أهلٌ لذلك
ـ[محمد سعد]ــــــــ[13 - 06 - 2008, 10:31 ص]ـ
جاء في كتاب (الصاهل والشاحج) للمعريّ
وهو يتحدث عن شعر التكسب على لسان الشاحج (البغل) فيقول:
"فإني كرهتُ أن أتصور بصور أهل النظم المكتسبين الذين لم يترك سؤال الناس في وجوههم قطرة من الحياء، ولا طولُ الطمع في نفوسهم أنفة من قبيح الأفعال".
لأن الشعر عند المعري "إذا جُعل مكسباً لم يترك للشاعر حسباً، وإذا كان لغير مكسب حَسُنَ في الصفات والنسب".