[من كنوز لغتنا الجميلة (قصيدة وحيد لابن الرومي)]
ـ[محمد سعد]ــــــــ[11 - 05 - 2008, 03:27 م]ـ
قصيدة " وحيد "
ابن الرومي
أحب ابن الرومي مغنية عصره الذائعة الصيت، الفائقة الجمال، وهام بها وجداً وعشقا، وارتجف بهذا الحب ريشته الساحرة الملهمة، فيفتن في رسم لوحته الشعرية الفريدة عن " وحيد" وهذه القصيدة واحدة من عيون قصائده، تنطق بقدرته الخارقة على التصوير والتجسيد، والاستقصاء البارع اليقظ في تناول التفاصيل الدقيقة، وأصالته الشعرية التي تتفجر بها كلماته وموسيقاه، بينما يتحدث هو عن " وحيد" حديث العارف الخبير المحيط بكل أوصافها وحالاتها يقول:
يا خليلي، تيمتني وحيد= ففؤادي بها معنىَّ عميد
غادة زانها من الغصن قدٌّ =ومن الظبي مقلتان وجيد
وزهاها من فرعها ومن الخدين=، ذاك السواد والتوريد
أوقد الحسن ناره في وحيد= فوق خدٍّ ما شانه تخديد
فهي برد بخدها وسلام =وهي للعاشقين جهد جهيد
لم تضر قط وجهها وهو ماء= وتذيب القلوب وهي حديد
ما لما تصطليه من وجنتيها =غير ترشاف ريقها تبريد
وبعد هذا العرض يعرض محاسنها في بساطة آسرة وسهولة ممتنعة فيقول:
مثل ذاك الرضاب أطفأ ذاك= الوجد، لولا الإباء والتصريد
وغريرٍ بحسنها قال: صفها! =قلت: أمران، هين وشديد
يسهل القول إنها أحسن الأشياء= طرا، ويعسر التحديد
شمس دَجن، كلا المنيرين - من شمس= وبدر - من نورها يستفيد
تتجلى للناظرين إليها =فشقي بحسنها وسعيد
ظبية تسكن القلوب وترعاها=، وقمرية لها تغريد
وهنا يصل ابن الرومي إلى ذروة الإبداع الشعري عندما يرسم بريشته المقتدرة هذه الصورة الوصفية لوحيد وهي تغني، وهنا نجد لونا من التناول الشعري لا مثيل له في شعرنا العربي كله يقول:
تتغنى، كأنها لا تغني= من سكون الأوصال، وهي تجيد
لا تراها هناك، تجحظ عين= لك منها، ولا يدِرُّ وريد
من هدوٍّ، وليس فيه انقطاع= وسُجُوّ، وما به تبليد
مد في شأو صوتها نفس كاف=، كأنفاس عاشقيها مديد
وأرقَّ الدلال والغنجُ منه= وبراه الشجا، فكاد يبيد
فتراه يموت طورا ويحيا =مستلَذٌّ بسيطه والنشيد
فيه وشي، وفيه حلي من النغم= مصوغ يختال فيه القصيد
طاب فوها وما ترجع فيه =كل شيء لها بذاك شهيد
ثَغَبٌ ينقع الصدى، وغناء =عنده يوجد السرور الفقيد
فلها - الدهر - لاثم مستزيد= ولها - الدهر - سامع مستعيد
وفي نهاية النص يكشف ابن الرومي عن مدى تعلقه وحبه لوحيد فهو لا يستمع لنصح يلومه في هواها بعد أن تملكه هذا الهوى وسدّ عليه كل الاتجاهات، فاين منه المفر:
في هوى مثلِها يخف حليم=راجح حلمه، ويغوى رشيد
ما تعاطي القلوب إلا أصابت= بهواها منهن حيث تريد
وترُ العزفِ في يديها مضاهٍ =وتَرَ الرجفِ فيه مهم شديد
وإذا أنبضته للشرب يوما= أيقن القوم أنها ستصيد
" معبد"في الغناء وابن"سريج"= وهي في الضرب"زلزل"و" عقيد"
عيبها أنها إذا غنت الأحرا=ر ظلوا وهم لديها عبيد
واستزادت قلوبهم من هواها= برُقاها، وما لديهم مزيد
وحسان عرضن لي، قلت: مهلا =عن وحيد، فحقها التوحيد
حسنها في العيون حسن وحيد =فلها في القلوب حب وحيد
ونصيحٍ يلومني في هواها= ضل عنه التوفيق والتسديد
لو رأى من يلوم فيه لأضحى= وهو لي المستريث والمستزيد
ضَلَّةٌ للفؤاد يحنو عليها= وهي تزهو - حياته - وتكيد
سحرته بمقلتيها فأضحت =عنده والذميم منها حميد
خلقت فتنة، غناء وحسنا =ما لها فيهما جميعا نديد
فهي نُعْمى، يميد منها كبير= وهي بلوى، يشيب منها وليد
لي - حيث انصرفت منها - رفيق =من هواها - وحيث حلت قعيد
عن يميني، وعن شمالي، وقدَّامي= وخلفي، فأين عنه أحيد
سد شيطان حبها كل فج =إن شيطان حبها لمريد
ليت شعري إذا أدام إليها =كرَّة الطرف، مبدئ ومعيد
أهي شيء لا تسأم العين منه؟ =أم لها كل ساعة تجديد
بل هي العيش لا يزال متى استعـ=رض يملي غرائبا ويفيد
منظر، مسمع، معان من اللهو، عتـ=اد لما يحب عتيد
لا يدب الملاك فيها، ولا ينقض= ض من عقد سحرها توكيد