تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[وفاء امرأة]

ـ[ليث بن ضرغام]ــــــــ[08 - 06 - 2008, 12:39 ص]ـ

حكى أبو الفرج، عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزيّ في كتابه المترجم ب ذم الهوى بسند رفعه إلى هشام بن عروة، قال: أذن معاوية بن أبي سفيان يوماً للناس، فكان فيمن دخل عليه فتى من بني عذرة. فلما أخذ الناس مجالسهم، قام الفتى العذريّ بين السماطين فأنشأ يقول:

مُعاوي، يا ذا الفضل والحلم والعقلِ = وذا البرِّ والإحسان والجود والبذل

أتيتك لمَّا ضاق في الأرض مسكني = وأنكرت مما قد أُصبت به عقلي

ففرَّج كلاك الله عنِّي فإنني = لقيت الذي لم يلقه أحدٌ قبلي

وخذ لي هداك الله حقِّي من الذي = رماني بسهم كان أهونه قتلي

وكنت أرجي عدله إن أتيته = فأكثر تردادي مع الحبس والكبلِ

سباني سُعدي والنبرى لخصومتي = وجار ولم يعدل وغاضبني أهلي

فطلَّقتها من جهد ما قد أصابني = فهذا أمير المؤمنين من العدلِ

فقال معاوية: ادن بارك الله عليك! ما خطبك؟ فقال: أطال الله بقاء أمير المؤمنين! إنني رجل من بني عذرة، تزوجت ابنة عمّ لي. وكانت لي صرمةٌ من الإبل وشويهات فأنفقت ذلك عليها، فلما أصابتني نائبة الزمان وحادثات الدهر، رغب عني أبوها. وكانت جارية فيها الحياء والكرم، فكرهت مخالفة أبيها. فأتيت عاملك مروان بن الحكم مستصرخاً به راجياً لنصرته. فذكرت له قصتي، فأحضر أباها وسأله عن قضيتي. وكان قد بلغه جمالها، فدفع لأبيها عشرة آلاف درهم، وقال له: هذه لك، وزوّجني بها وأنا أضمن خلاصها من هذا الأعرابيّ! فرغب أبوها في البذل فصار الأمير لي خصماً وعليّ منكرا! فانتهرني وأمر بي إلى السجن وأرسل إليّ أن أطلقها فلم أفعل. فحبسني وضيق عليّ وعذبني بأنواع العذاب، فلما أصابني مسُّ الحديد وألم العذاب ولم أجد بدّاً عن ذلك، طلقتها. فما استكملت عدّتها حتّى تزوج بها. فلما دخل بها أرسل إليّ فأطلقني. وقد أتيتك يا أمير المؤمنين مستجيراً بك، وأنت غياث المكروب، وسند المسلوب. فهل من فرج؟ وبكى وقال في بكائه:

في القلب منِّي نارُ = والنار فيها استعارُ

والجسم منِّي نحيلٌ = واللون فيه اصفرارُ

والعين تبكي بشجوٍ = فدمعها مدرارُ

والحبُّ داء عسيرٌ = فيه الطَّبيب يحارُ

حُمِّلت منه عظيماً = فما عليه اصطبارُ

فليس ليلي ليلاً = ولا نهاري نهارُ

فرقَّ له معاوية وكتب إلى ابن الحكم كتاباً غليظاً، وكتب في آخره:

ركبت أمراً عظيماً لست أعرفه = أستغفر الله من جور امرئٍ زاني

قد كُنت تُشبه صُوفياً له كُتبٌ = من الفرائض أو آيات فرقانِ

حتَّى أتانا الفتى العذريُّ منتحباً = يشكو إليّ بحقٍّ غير بهتانِ

أُعطي الإله عهوداً لا أخيس بها = أو لا فبرِّئت من دينٍ وإيمانِ

إن أنت راجعتني فيما كتبت به = لأجعلنَّك لحماً بين عقبانِ

طلِّق سُعاد، وجهزها معجَّلةً = مع الكميت، ومع نصر بن ذبيانِ

فما سمعت كما بُلغت من عجب =ولا فعالك حقاً فعل إنسانِ

ثم طوى الكتاب ودفعه إلى الكميت ونصر بن ذبيان وقال: اذهبا به إليه!

قال: فلما ورد كتاب معاوية على ابن الحكم وقرأه تنفس الصعداء، وقال: وددت أن أمير المؤمنين خلَّى بيني وبينها سنة ثم عرضني على السيف! وجعل يؤامر نفسه في طلاقها فلا يقدر. فلما أزعجه الوفد طلقها وأسلمها إليهما. فلما رآها الوفد على هذه الصورة العظيمة وما اشتملت عليه من الجمال المفرط، قالوا: لا تصلح هذه إلا لأمير المؤمنين! وكتب ابن الحكم كتاباً لأمير المؤمنين معاوية، ودفعه إليهما مع الجارية. فكان مما كتب فيه يقول:

لا تحنثنَّ أمير المؤمنين فقد = أوفي بعهدك في رفق وإحسانِ.

وما ركبت حراماً حين أعجبني = فكيف سُمِّيت باسم الخائن الزاني؟

أعذر فإنك لو أبصرتها لجرت = منك الأماني على تمثال إنسانِ

وسوف تأتيك شمسٌ ليس يعدلها = عند البريَّة من إنس ومن جانِ

حوراء يقصر عنها الوصف إن وصفت =أقول ذلك في سرٍّ وإعلانِ

فلما ورد الكتاب على معاوية وقرأه، قال: لقد أحسن في الطاعة، ولكن أطنب في ذكر الجارية! ولئن كانت أعطيت حسن النَّغمة مع هذا الوصف الحسن فهي أكمل البرية! فأمر بإحضارها، فلما مثلت بين يديه، استنطقها فإذا هي أحسن الناس كلاماً وأكملهم شكلاً ودلالاً. فقال: يا أعرابيّ، هذه سعدي! ولكن هل لك عنها من سلوة بأفضل الرغبة؟ قال نعم، إذا فرَّقت بين رأسي وجسدي! فقال: أعوّضك عنها يا أعرابيّ بثلاث جوارٍ ومع كل واحدة ألف دينار وأقسم لك من بيت المال ما يكفيك في كل سنة ويعينك على صحبتهنّ. فشهق شهقة ظن معاوية أنه مات. فقال له: ما بالك يا أعرابيّ؟ قال: أشرُّ بال وأسوأ حال، استجرت بعدلك من جور ابن الحكم، فعند من أستجير من جورك؟ ثم أنشأ يقول:

لا تجعلني والأمثال تضرب بي = كالمستغيث من الرَّمضاء بالنارِ

أردد سُعاد على حيران مكتئبٍ = يُمسي ويصبح في همٍّ وتذكارِ

قد شفَّه قلقٌ ما مثله قلقٌ = وأسعر القلب منه أيّ إسعارِ

كيف السُّلوُّ، وقد هام الفؤاد بها = وأصبح القلب عنها غير صبارِ؟

قال: فغضب معاوية غضباً شديداً، ثم قال: يا أعرابيّ، أنت مقرٌّ بأنك طلقتها! ومروان مقرٌّ بأنه طلقها، ونحن نخيرها فإن اختارتك أعدناها إليك بعقد جديد، وإن اختارت سواك زوّجناه بها. ثم التفت إليها أمير المؤمنين وقال: ما تقولين، يا سعدى؟ أيما أحبُّ إليك، أمير المؤمنين في عزه وشرفه وسلطانه وما تصيرين إليه عنده، أو مروان بن الحكم في عسفه وجوره، أو هذا الأعرابي في فقره وسوء حاله؟ فأنشأت تقول:

هذا، وإن كان في فقرٍ وإضرارِ = أعزُّ عندي من قومي ومن جاري

وصاحب التَّاج أو مروان عامله = وكلِّ ذي درهمٍ عندي ودينارِ

ثم قالت: والله يا أمير المؤمنين، ما أنا بخاذلته لحادثة الزمان ولا لغدرات الأيام! وإن لي معه صحبة لا تنسى ومحبة لا تبلى! والله إني لأحق من صبر معه الضراء كما تنعَّمت معه السرَّاء! فعجب كلُّ من كان حاضراً. فأمر له بها ثم أعادها له بعقد جديد، وأمر لهما بألف دينار. فأخذها وانصرف يقول:

خلُّوا عن الطريق للأعرابي! ... ألم ترقُّوا، ويحكم مما بي؟

قال: فضحك معاوية وأمر بها فأدخلت في قصوره حتى انقضت عدّتها من ابن الحكم ثم أمر برفعها إلى الأعرابي.

نهاية الأرب في فنون الأدب

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير