السِّحر الحلال
ـ[محمد سعد]ــــــــ[02 - 06 - 2008, 07:34 م]ـ
وكانوا يسمّون الكلام الغريب السَحر الحلال، ويقولون: اللفظ الجميل من إحدى النّفَثَاتِ في العُقَد.
وذكر بعضُ الرُواة أنه لما اسْتُخْلِفَ عمرُ بن عبد العزيز، رضي اللّه عنه، قَدِمَ عليه وُفُودُ أهلِ كلِّ بلد؛ فتقدَّم إليه وَفْدُ أهلِ الحجاز، فأشْرَأب منهم غلامٌ للكلام، فقال عمر: يا غلام، ليتكلمْ مَنْ هو أَسَن منك! فقال الغلام:
يا أمير المؤمنين، إنّما المرءُ بأَصغريه، قلبهِ ولسانِهِ، فإذا مَنَح اللَّهُ عبدَه لساناً لافظاً، وقلباً حافظاً، فقد أجاد له الاختيار؛ ولو أن الأمور بالسن لكان هاهنا مَنْ هو أحق بمجلسك منك.
فقال عمر: صدقت، تكلّم؛ فهذا السحْرُ الحلال! فقال: يا أمير المؤمنين، نحن وفد التهنئة لا وَفْدُ الْمَرْزِئة، ولم تُقْدِمْنا إليك رغبةٌ ولا رهبة؛ لأنا قد أمِنا في أيامك ما خِفْنا، وأدركْنا ما طلبنا! فسأل عمر عَنْ سِنّ الغلام، فقيل: عشر سنين.
ـ[محمد سعد]ــــــــ[02 - 06 - 2008, 07:37 م]ـ
وقد روي أن محمد بن كعب القرظي كان حاضراً، فنظر وَجْه عمر قد تهلَل عند ثَناء الغلام عليه؛ فقال: يا أمير المؤمنين؛ لا يغلبَنَ جهلُ القوم بك معرفتَك بنفسك؛ فإنّ قوماً خَدَعهم الثناءُ، وغرهم الشكر، فزلّت أقدامُهم، فهوَوا في النار. أعاذك الله أن تكون منهم، وألحقك بسَالِف هذه الأمة؛ فبكى عمر حتى خِيفَ عليه، وقال: اللهم لا تُخْلِنَا من واعظ! وقد رُوي أنّ عمرَ قال للغلام: عِظْني، فقال هذا الكلام، وفيه زيادة يسيرهّ ونقص. وأخذ قولَ عمرّ: هذا السحر الحلال أبو تمام فقال يعاتب أبا سعيد محمد بن يوسف الطائي الوافر:
إذا ما الحاجةُ انبَعَثَتْ يَدَاها =جَعَلْتَ المَنْعَ منكَ لها عِقَالاَ
فأين قصائدٌ لي فيكَ تَأبى =وتأنفُ أَنْ أُهان وأَن أذَالا
هي السّحرُ الحلالُ لمُجْتَلِيه =ولم أرَ قبلها سِحْراً حَلاَلا
ـ[محمد سعد]ــــــــ[02 - 06 - 2008, 07:41 م]ـ
وكتب أبو الفضل بن العميد إلى بعض إخوانِه جواباً عن كتاب وردَ إليه فأحمده:
وَصَلَ ما وصلْتَني به، جعلني اللّه فداك، من كتابك، بل نعمتك التامة، ومُنَّتك العامة؛ فقرَت عيني بوروده، وشُفِيَتْ نفسي بوفوده، ونَشَرتُه فحَكَى نسيمَ الرياض غِب المطر، وتنفسَ الأنوارِ في السَّحر، وتَأَمَلْتُ مفْتَتَحه، وما اشتمل عليه من لطائف كَلِمك، وبدائع حِكَمك؛ فوجدته قد تحمَّل من فنون البرّ عنك، وضروب الفَضْلِ منك، جِدًّاً وهزْلاً، ملأَ عيني، وعَمَرَ قلبي، وغلب فِكْري، وبَهَر لُبِّي؛ فبقيتُ لا أدري: أسُمُوط ذر خصصتَني بها، أم عقود جوهر منَحْتنِيها؟ كما لا أدري أَبِكْراً زَفَفْتَها فيه، أم روضةً جهزتها منْه؛ ولا أدري أخدوداً ضُرِّجت حياءً ضمّنته؛ أم نجوماً طلعت عشاءً أودعته؛ ولا أدري أجِدُّك أبلغ وألطف، أم هَزْلك أرفع وأظرف؛ وأنا أوَكَلُ بتَتَبع ما انْطَوَى عليه نَفْساً لا ترى الحَظَّ إلاَ ما اقْتَنته منه، ولا تَعُد الفضل إلا فيما أخذتْه عنه، وأمَتِّع بتأمّله عيناً لا تَقَرُ إلاَّ بمثْلِهِ، مِمَّا يَصْدر عن يَدِك، ويَرِدُ من عندك، وأعْطِيه نظراً لا يملُه، وطَرْفاً لا يطرِف دونه، وأجعله مِثالاً أرْتَسمه وأحْتَذِيه، وأمتعِ خلقي برَوْنَقِه، وأُغذي نفسي ببَهْجَتِه، وأمزج قريحتي برقَّته، وأشْرَح صَدْري بقراءته، ولئن كنت عن تحصيل ما قلْتَه عاجزاً، وفي تعديد ما ذكرته متخلفاً؛ لقد عرفت أنه ما سمعتُ به من السحْرِ الحلال.
ـ[محمد سعد]ــــــــ[02 - 06 - 2008, 07:47 م]ـ
وقال بعض المحدثين يمدح كاتباً الكامل:
وإذا جَرَى قلم له في مُهْرَقٍ =عَجْلاَنَ في رَفَلانِهِ وَوَجِيفهِ
نَظَمَتْ مراشفُه قلائد نُظّمَت =بنَفيِسِ جَوْهَرِ لفظِهِ وشريفه
بِدْعاً من السِّحْرِ الحلال تولَدَتْ= عن ذهنِ مصقولِ الذكاءِ مَشُوفهِ
مَثَلاً لضاربهِ وزادَ مُسَافر =جُعِلَتْ وتحفةَ قادم لأَلِيفهِ
وعلى ذكر قوله وتحْفَة قادم قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وصَفَ رجل رجلاً فقال: كان والله سَمْحاً سَهْلاً، كأنّما بينه وبين القلوب نَسَب، أو بينه وبين الحياةِ سبَبٌ، إنما هو عيادة مريض، وتُحْفَة قادم، وواسِطَةُ عِقْد.