وليس غريبا على مثل هذه الأم أن تتمنى أن يرزق الله جميع أولادها الشهادة وحب الاستشهاد ليسيروا على درب عقل، وهي القائلة: "من يحب الله والوطن فلا يتوانى عن تقديم أبنائه فداء له، والأم التي تحب ولدها تطلب له النجاة في الدنيا والآخرة وتدفعه للجهاد ولا تجزع عند فوزه بها، ولا تشمت الأعداء بشعبنا بدموعها على شاشات التلفزة".
"تزحزح قليلاً يا بني، ضع يدك على كتفي، دعني أُقبلك قبلة الوداع، هيا التقط صورتك أيها المصور وأنا أزف ولدي إلى الشهادة".
صورة تكاد تنبض فيها الحياة وتدور بينك وبينها حوارات طويلة .. هكذا كانت اللقطة التاريخية التي سجلتها أم نضال مع ابنها محمد فرحات وهي تزفه إلى الشهادة أو في مفهوم البعض إلى الموت.
لقد سنّت أم نضال سنة حسنة جديدة ربما في الواقع هي قديمة بقدم تاريخ الأرض والتقطت لها صورة مع محمد في شرائط الفيديو المعتادة التي كانت تسجل مع الشهيد قبل عمليته؛ فالشهيد هذه المرة لم يكن وحيدًا، بل كان معه والدته.
الصورة الرمز التي تخفي وراءها جيشًا من الأمهات والآباء الصابرين .. هي ولا شك نقلة نوعية في مشاعر الأمومة، فالكثير يتحدث عن نقلة نوعية في أساليب المقاومة في انتفاضة الأقصى، إلا أن أحدًا لم يذكر مع تلك الأسلحة هذه النقلة الجديدة التي سجلت براءتها أم نضال ومثيلاتها .. والتي أضافت قائلة: "ابني الشهيد هو خير من يبرني فهو الذي سيشفع لي بشهادته .. من كانت تحب ولدها فلتعطه أغلى ما تستطيع .. وأغلى ما يمكن أن تقدمه هو الجنة" .. كانت هذه الكلمات هي الإمضاء الذي سطرته على طرف صورتها.
وفي يوم الخميس السابع من شهر آذار "مارس" عام 2002م خرج ألاستشهادي محمد حاملا سلاحه ومضى في رحلته الأخيرة بعد أن ودع والدته الذي تلقى منها درسًا في الثبات والإقدام .. وتمكن من اجتياز كافة الإجراءات الأمنية والحواجز والبوابات الإلكترونية الصهيونية إلى أن دخل مستوطنة "عتصمونا" ومكث فيها زهاء عشر ساعات متواصلة دون خوف وبقلبه الصغير الشجاع انتظر تجمع أكبر عدد من العسكريين الصهاينة، فخرج من مربضه كالأسد ليفاجأهم، ويقتل سبعة منهم ويجرح العشرات من طلبة الأكاديمية العسكرية في مستوطنة "عتصمونا" الملعونة.
وشكلت العملية الاستشهادية النوعية مفخرة لكل إنسان فلسطيني وأثبتت القدرات التي تمتع بها هذا الشبل الفلسطيني الذي تمكن من تحقيق ما لم تحققه فرق عسكرية مدربة في الجيوش مؤكدًا أن ما يتبجح به هذا العدو من قوة ما هي إلا أوهام واهية يستطيع الفلسطيني بإرادته وتصميمه أن يجعلها سرابًا.
الشهيد القسامي محمد فتحي فرحات لم يدخل كلية عسكرية يتعلم فيها فنون القتال واقتحام المواقع بل تعلم على يد والدته مريم (أم نضال) خنساء فلسطين دروسًا في التضحية والإقدام والثبات.
ودع محمد والدته التي علمت أن ابنها في طريقه للشهادة، وبدون دموع قالت أم نضال "لو كنت أعرف كيف أزغرد فرحًا بخبر استشهاد ابني لفعلت"، نالت أم نضال الشرف حين وقفت أمام شبلها وهو يقرأ وصيته في شريط مصور تناقلته وسائل الإعلام فقبلته وأوصته بذكر الله والتوكل على الله والتركيز في تنفيذ العملية وأن النصر حليفه وحليف المجاهدين.
وبقيت أم نضال مستيقظة طوال الليل تدعو الله عز وجل بنجاح العملية، وتابعت أم نضال نشرات الأخبار إلى أن وصل خبر العملية وأنها نجحت فحمدت الله فأسرعت إلى أولادها لتبشرهم بنجاح العملية، لم تقبل أم نضال التعزية بشبلها بل زغردت له ووزعت الحلوى وفتحت بيتها لاستقبال المهنئين باستشهاده وبنجاح العملية.
تقول أم نضال فرحات وهي تستذكر الأيام التي سبقت استشهاد ابنها محمد "كانت الجنة أمام عينه كان فرحًا لأنه حدد موعد استشهاده .. رفض أن يذهب لأي مكان قبل استشهاده بأيام، كان يقول لي أنا لا أستطيع فعل شيء سوى انتظار الشهادة .. كنت أوصيه بمزيد من الصلاة وقراءة القرآن حتى يوفقه الله".
وأضافت "في هذا المنزل كان الشهيد عماد عقل يخطط لعملياته وعلى باب منزلنا استشهد عماد .. كان محمد حينها في العاشرة من عمره .. ولقد اعتقل ابني نضال لحظة استشهاد عماد".
وتضيف أم نضال فرحات "في ذلك اليوم الذي صادف يوم الخميس كان الشهيد محمد فرحات صائمًا وعندما وصل إلى رفح اتصل بي على الهاتف الخلوي وأوصيته حينها بألا يتردد".
¥