تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

السامعين، ولم يقطع وفي النفوس ظمأ إلى المزيد.

إنّ زهيرًا قد بدأ قصيدته بالغزل و التشبيب متّبعًا سنّة الجاهليين , رغم أنّه لم يكن ممن شغف قلوبهم الحبّ , بل إنّه يبدأ بالغزل ليرضي سامعيه لا ليرضي نفسه , لذلك نراه مرّةً يعلم سامعيه في مطلع القصيدة باختلافه عن أقرانه ممّن يبدؤون بالتشبيب , يقول مثلاً:

صحا القلب عن سلمى و قد كان لا يسلو و أقفر من سلمى التعانيق فالثقل

و مرّةً أخرى يعلمهم بذلك في ختام قطعه الغزليّة , يقول مثلاً " فعدّ عمّا ترى .... " فهو يتغزّل جريًا على التقاليد ليس غير، و هو إذ ذاك مبدعٌ في تصوير أثر الحبّ في النفس معبّرًا بذلك عن مقدرةٍ فنّيّة لا عن مشاعر حقيقيّة.

و يمكننا بعد ذلك أنْ ننظر في هذه الأبيات فنرى أنّها تمثّل عدّة مشاهد تصوير الفراق و ما تخلّله من إخلاف للوعد، تصوير بعض صفات أسماء، تصوير حال الشاعر و تألّمه من الفراق، ثم بعد ذلك اتخاذ القرار النهائيّ في هذه المسألة.

إنّ مشهد الفراق يطالعنا منذ اللحظة الأولى " إنّ الخليط أجدّ البين فانفرقا " دون تمهيد يهيّئنا له , و قد أخبر عنه مؤكّدًا إيّاه بـ (إنّ) , و بعدُ زاد التوكيد توكيدًا بالفعل (أجدّ) الذي يفيد تعظيم الأمر و عدم الهزَرِ فيه , و قد جمع زهير في هذا الشطر أطراف مشهد الفراق و ما يلزمه من اختلاطٍ و بينٍ , و الخليط هو المخالط في الدار , و هؤلاء الذين خالطوه زمنًا فارقوه و معهم مَنْ سلبت قلبه. لكنّها إذ فارقته أخذت قلبه معها فهو متعلّق بها تعلّقا لا فكاك منه , و قد عبّر عن القلب بكلمة (الرهن) ليدلّ على تمكّنها منه , ففي قوله " فارقتك برهن لا فكاك له " إشارة إلى أنّها حين ظعنت مع قومها أخذت هذا المرهون معها و لم تدع لاسترداده سبيلاً. ثمّ يتّهمها بإخلاف وعدها الذي وعدتْ , و هو يقول ذلك بطريقته التي تؤكّد تميّزه من غيره في موضوع الغزل و الحبّ إذ إنّه جرّد من نفسه شخصًا آخر هو الذي تعرّض للوعدِ و الإخلاف , فهو ينبو بنفسه عن التعرّض لمثل هذا الأمر , ثمّ يعلم مخاطبَه المزعوم أنّ أسماء قد صرمتْ حبله و أعرضت عن وصله.

ثم ينتقل زهير إلى تشبيه عنق أسماء بعنق الظبية تارة و تشبيه ريقة أسماء بالخمرة تارة يلتقط من كلٍّ ما يجمّل صورة محبوبته. و هو انتقال لطيف دلّ عليه قوة ترابط الأبيات السابقة بالأبيات اللاّحقة.

فمحبوبته تُظْهِر له نفسها لتثير أشواقه و تحرّك لواعجه , و قد استعمل الفعل (تبدّى) الذي يفيد شدّة تأثّره و عظمة أشواقه , و يبدو أنّها قد نالت منه إذ أثارت أشواق العاشق القديم و فتحت عليه جراحاته , و نلحظ استعماله حرف الشين في الشطر الثاني في (يشتاق , عشقا) و هو حرف يفيد التّفشّي فكأنّ حبّها قد تفشّى في نفسه حتّى ملكها. ثمّ يصوّر تبدّيها تصويرًا دقيقًا بديعًا , فهي تتبدّى بجيد مغزلةٍ (و قد جعلها مغزلاً لأنّ ذلك أشدّ لانتصابها , لحذرها على مولودها) و هو يصوّر جيدها بجيد ظبية بيضاء امتلأ قلبُها بحبّ ابنها فهي عاكفة عليه. وهي شديدة البياض , شديدة الحنان (تراعي شادنا خرقا) فقد اشتدّ لحم مولودها لكنّه مازال خرقًا لا يقدر على الحركة لضعفه و صغره.

ثمّ يشبّه ريقتها بخمرٍ معتّقةٍ لم تجاوز العتق إلى الفساد , و قد مزجها الساقون بالماء لحدّتها. فقد شبّه جيدها بجيد الغزال , و شبّه ريقتها بالخمر المعتّقة , وبعد ذلك ينتقل ليشبّه عينيه بالدلوين الذين يُملآن ماءً و يسحبان بالناقة من البئر , و قد جعل الناقة التي تسحب هذين الدلوين مقتّلةً أي مذلّلة و إنّما خصّ المقتّلة لأنّها ماهرة إذ تخرج الدلو ملآن فيسيل من نواحيه أمّا الصعبة فتنفر فتهريقه فلا يبقى من الماء إلا صبابة , و هذه المقتّلة من النواضح , و الناضح هو البعير الذي يُستقى عليه , و هو يسقي جنّةً سحقا أي فسيحة مترامية الأطراف أو أنّ معنى السحق هنا النخل , و هو أكثر حاجة إلى الماء من غيره و هذا أدعى لكثرة خبرتها بنقل الماء. ثمّ يتابع في تصوير تلك الناقة من حيث ما تحمله إذ إنّ جميع ما أحاط بها هو من أحمالها و قد خصّ من هذه الأحمال الغرب (الدِّلاء) ليعود بنا إلى تصوير العينين , فهذه الدّلاء إذا ما تعرّضت للإفراغ انصبّ ما فيها , و كذلك حال عينيه إذا ما تعرّض لمثير فإنّهما تسكبان الدموع. و إنّ محبوبته كالقابل (الذي يقبل الدلو) يكثر عنده سكب الماء كما يكثر عندها سكب الدموع.

و أخيرًا يختم الشاعر هذه المعركة التي رسمها بأبدع ما أوتي الشاعر , يختمها بقوله:

فعدّ عمّا ترى إذ فات مطلبه أمسى بذاك غراب البين قد نعقا

فهو يلتفت إلى ذلك الشخص الذي جرّده من نفسه ليلقي النصيحة الأخيرة و لو كانت صعبة على نفسه و على من يخاطبه , إذ يقول له: اصرف هواك عن هذا المحبوب الذي انقطعت سبل الوصال بينك و بينه , و قد صار قومه إلى محاضرهم. و نلحظ أنّه ذكر الغراب في هذا المشهد , و هذا من تقاليد الجاهليّة إذ يتشاءمون من الغراب , و ربّما ذكر ذلك لينفّر مخاطبه عن تذكّر من لا سبيل إلى وصالهم , و قد كانوا قبلُ صرموا حبله.

و نحن نلحظ هذا التصوير البديع لهذه المشاهد و لطف الانتقال من واحد لآخر و لعلّنا نُدهش حين نعلم أنّ تصويره ذاك لم يكن عن تجربة عاشق ملتاع بل كان نتيجة براعة شاعر و مَلَكة أديب فذّ تمكّن من اللغة أيّما تمكّن , و كما أسلفنا: لم يكن غزلُه إلا تقفّيًا لأثر من سبقه , أو إرضاءً لسامعيه.

قدّمتُ هذه الدراسة كحلقة بحث في الأدب الجاهليّ و أنا طالب في السنة الثانية و أعطاها الأستاذ الدكتور عيسى على العاكوب حفظه الله درجة الممتاز , و حصلتْ من قسم اللغة العربيّة على 18 درجة من 20.

بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله الرحمن الرحيم

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير