وَخَلَّوْا عَنِ الدُّنْيَا وَما جَمَعُوا بِها = وَما فَازَ مِنْهُمْ غَيْرُ مَنْ هُوَ صَابِرُ
وَحَلوا بِدَارٍ لاَ تَزَاوُرَ بَيْنَهُمْ = وَأَنَّى لِسُكَّانِ القُبُورِ التَّزَاوُرُ
فَمَا إِنْ تَرَى إِلاَّ رُمُوساً ثَوَوْا بِها = مُسَطَّحَةً تًسْفِي عَلَيْها الأَعَاصِرُ
كَمْ عَايَنْتَ مِن ذِي عِزَّةٍ وَسُلْطانٍ، وَجُنُودٍ وَأَعْوَانٍ، قَدْ تَمكَّنَ مِنْ دُنْياهُ، وَنالَ مِنْهَا مُنَاهُ، فَبَنَى الحُصُونَ وَالدَّسَاكِرَ، وَجَمَعَ الأَعْلاَقَ وَالعَساكِرَ
فَمَا صَرَفَتْ كَفَّ المَنِيَّةِ إِذْ أَتَتْ = مُبادِرَةً تًهْوِى إِلَيْهِ الذَّخائِرُ
وَلا دَفَعَتْ عَنْهُ الحُصونُ الَّتي بَنَى = وَحَفَّتْ بِها أَنْهارُها والدَّساكِرُ
وَلا قَارَعَتْ عَنْهُ المَنِيَّةَ حِيلَةٌ = وَلا طَمِعَتْ في الذَّبِّ عَنْهُ العَساكِرُ
يا قَوْمُ الحَذَرَ الحَذَرَ، وَالبِدارَ البِدارَ، مِنْ الدُّنْيا وَمَكايدِهَا، وَمَا نَصَبَتْ لكُمْ من مَصايِدِها، وَتَجَلَّتْ لَكُمْ مِنْ زِينَتِها، واسْتَشْرَفَتْ لَكُمْ مِنْ بَهْجَتِهَا.
وَفي دُونِ مَاعَاَينْتَ مِنْ فَجَعاتِهَا = إِلَى رَفْضِهَا دَاعٍ وَبالزُّهْدِ آمِرُ
فَجِدَّ وَلا تَغْفُلْ فَعَيْشُكَ بَائِدٌ = وَأَنْتَ إِلَى دارِ المَنِيَّةِ صائِرُ
وَلا تَطْلُبِ الدُّنْيا فَإِنَّ طِلابَها = وَإِنْ نِلْتَ مِنْهَا رَغْبَةً لَكَ ضَائِرُ
وَكَيْفَ يَحْرِصُ عَلَيْها لَبيبٌ، أَوْ يُسَرُّ بِهَا أَريبٌ، وَهْوَ عَلى ثِقَةٍ مِنْ فَنَائِهَا؟ أَلاَ تَعْجَبُونَ مِمَّنْ يَنامُ وَهْوَ يَخْشى الْمَوتَ، وَلا يَرْجُو الفَوْتَ؟
أَلاَ، لاَ، وَلكِنَّا نَغُرُّ نُفُوسَنَا = وَتَشْغَلُهَا اللَّذَّاتُ عَمَّا نُحَاذِرُ
وَكَيْفَ يَلَذُّ العَيْشَ مَنْ هُوَ مُوقِنٌ = بِمَوْقِفِ عَدْلٍ حَيْثُ تُبْلى السَرَائِرُ
كَأَنَّا نَرى أَنْ لا نُشُورَ، وَأَنَّنَا = سُدَىً، مَا لَنَا بَعْدَ الفَنَاءِ مَصَائِرُ!
كَمْ َغَرَّتِ الدُّنْيا مِنْ مُخْلِدٍ إِلَيْهَا وَصَرَعَتْ مِنْ مُكِبٍّ عَلَيْهَا؛ فَلَمْ تُنْعِشْهُ مِنْ عَثْرَتِهِ؟ وَلَمْ تُقِلْهُ مِنْ صَرْعَتِهِ، وَلَمْ تُداوِهِ مِنْ سَقَمِهِ، وَلَمْ تَشْفِهِ مِنْ أَلَمِهِ.
بَلى أَوْرَدَتْهُ بَعْدَ عِزٍّ وَرِفْعَةِ = مَوَارِدَ سُوءٍ مَا لَهُنَّ مَصادِرُ
فَلَمَّا رَأَى أَنْ لاَ نَجَاةَ وَأَنَّهُ = هُوَ المَوْتُ لاَ يُنْجِيهِ مِنْهُ المُؤازِرُ
تَنَدَّمَ لَوْ أَغْناهُ طُولُ نَدَامَةٍ = عَلَيْهِ وَأَبْكَتْهُ الذُّنُوبُ الكَبَائِرُ
بَكَى عَلى مَا سَلَفَ مِنْ خَطَايَاهُ، وَتَحَسَّرَ عَلى مَا خَلَّفَ مِنْ دُنْيَاهُ، حَيْثُ لَمْ يَنْفَعُهُ الاِسْتِعْبَارُ، وَلَمْ يُنْجِهَ الاعْتَذَارُ.
أَحَاطَتْ بِهِ أَحْزَانُهُ وَهُمُومُهُ = وَأَبْلَسَ لَمَا أَعْجَزَتْهُ المَعاذِرُ
فَلَيْسَ لَهُ مِنْ كُرْبَةِ المَوْتِ فَارِجٌ = وَلَيْسَ لَهُ مَمَّا يُحاذِرُ نَاصِرُ
وَقَدْ خَسِئَتْ فَوْقَ المَنِيَّةِ نَفْسُهُ = تُرَدِّدُهَا مِنْهُ اللُّهَى وَالحَنَاجِرُ
فَإِلَى مَتَى تُرَقِّعُ بِآخِرَتِكَ دُنْيَاكَ، وَتَرْكَبُ في ذاكَ هوَاكَ؟ إِنِّي أَرَاكَ ضَعيفَ اليَقينِ، يَا رَاقِعَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، أَبِهذا أَمَرَكَ الرَّحْمنْ، أَمْ عَلى هَذا دَلَّكَ القُرْآنُ؟
تُخَرِّبُ مَا يَبْقَى، وَتَعْمُرُ فَانِياً = فَلاَ ذَاكَ مَوْفُورٌ، وَلاَ ذَاكَ عَامِرُ
فَهَلْ لَكَ إِنْ وَافَاكَ حَتْفُكَ بَغْتَةً = وَلَمْ تَكْتَسِبْ خَيْرَاً لَدَى اللهِ عَاذِرُ؟؟
أَتَرْضَى بِأَنْ تُقْضَى الحَياةُ وَتَنْقَضِي = وَدِينُكَ مَنْقُوصٌ وَمَالُكَ وَافِرُ؟؟
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَقُلْتُ لِبَعْضِ الحَاضِرِينَ: مَنْ هَذا؟ قَالَ: غَرِيبٌ قَدْ طَرَأَ لاَ أَعْرِفُ شَخْصَهُ، فَاصْبِرْ عَلَيْهِ إِلَى آخِرِ مَقَامَتِهِ، لَعَلَّهُ يُنْبِئُ بِعَلاَمَتِهِ، فَصَبَرْتُ فَقَالَ: زَيِّنُوا العِلْمَ بِالعَمَلِ، وَاشْكُرُوا القُدْرَةَ بِالْعَفْوِ، وَخُذُوا الصَّفْوَ وَدَعوا الكَدَرَ، يَغْفِرِ اللهُ لِي وَلَكُمْ، ثُمَّ أَرَادَ الذَّهَابَ، فَمَضَيْتُ عَلى أَثَرِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ يَا شَيْخُ؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ! لَمْ تَرْضَ بِالْحِلْيَةِ غَيَّرْتَها، حَتَّى عَمَدْتَ إِلى
¥