تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إن الحوار هو أبسط صورة لتبادل الأفكار، وهو بذلك المرحلة التمهيدية البسيطة لكل عمل مشترك فقواعد الحديث إذن لا تخص حسن الآداب فقط، بل هي جزء رئيسي من تقنية العمل. ونحن نجد هذه الصلة، بصورة رمزية، في العهد القديم عندما يقص علينا: كيف اصبح عمل القوم مستحيلاً في تشييد برج بابل، عندما اختلفت ألسنتهم، ففي هذه القصة نرى كيف يتعطل العمل بمجرد ما تعطل تبليغ الأفكار بالكلام.

فالقضية إذن لا تخص قواعد الحديث وحسن السلوك في المنتديات والمؤتمرات والصالونات والمقاهي فحسب، بل تخص مباشرة تقنية العمل من زاوية الفعالية، فحيث لا يكون الحديث لمجرد التسلية، يجب أن يخضع لقواعد العمل، الذي ليس في بداية ومرحلة تحضيرة، سوى مشروع في محتوى بعض الكلمات وبعض الأفكار، وفي هذا المستوى، يتداخل الجانب الأخلاقي والجانب المنطقي ليكونا معاً العمل الفعال أو العمل التافه. وأظن أننا لا نزال كأمة في المستوى الثاني.

فليس من الضروري - ولا من الممكن - أن يكون لمجتمع فقير، المليارات من الذهب كي ينهض، وإنما ينهض بالرصيد الذي لا يستطيع الدهر ان ينقص من قيمته شيئاً، الرصيد الذي وضعته العناية الإلهية بين يديه: الإنسان، والتراب، والوقت، فالثورة لا ترتجل، إنها إطراد طويل، يحتوى ما قبل الثورة والثورة نفسها، وما بعدها والمراحل الثلاث هذه لا تجتمع فيه بمجرد إضافة زمنية، بل تمثل فيه نمواً عضوياً وتطوراً تاريخياً مستمراً، وإذا حدث أي خلل في هذا النمو وفي هذا التطور فقد تكون النتيجة زهيدة تخيب الآمال.

فالثورة قد تتغير إلى "لا ثورة" بل قد تصبح "ضد الثورة" بطريقة واضحة خفية، والأمر الذي لا يجوز أن يغيب عن أذهاننا في هذا الصدد هو أن مجتمعاً ما بمقتضى طبيعته البشرية ينطوي على خمائر من روح - ما ضد الثورة - طبقاً لمبدأ التناقض تناقضاً مستمراً. حتى في فترة ثورية نستطيع تتبع آثاره في تاريخ كل الثورات. بحيث لا يغني أن ندفع عجلة الثورة في وطن ما، بل يجب أن نتتبع حركتها ورقابتها بعد ذلك.

وطالما كانت الإرادة الحضارية طوع الفكرة فإننا إزاء عصر التلقين المستبد بتصوراتنا ومفاهيمنا نواجه انهيار هذه الإرادة حتى لا تقوى على احتضان المصير، والصراع الفكري يجد إطاره الأوسع في البلاد المحكومة بشبكة من الإيحاءات، تدلي بها مراصد الاستعمار، لتصنع متقلب الأحداث وسوء منقلبها حيال كل نهضة فاعلة في عالمنا العربي والإسلامي.

فالمشكلة مشكلة أفكار في النهاية، لأننا بها ننظم خطانا في ثبات الأديم، وندفع طاقتنا في مضاء العزيمة، ونحشد وسائلنا في وثيق الإنجاز.

إن لكل حضارة نمطها وأسلوبها وخيارها. وخيار العالم الغربي ذي الأصول الرومانية الوثنية قد جنح بصره إلى ما حوله مما يحيط به: نحو الاشياء، بينما الحضارة العربية الإسلامية عقيدة التوحيد المتصل بالرسل قبلها سبح خيارها نحو التطلع الغيبي وما وراء الطبيعة: نحو الأفكار.

والإنسان حينما ينظم شبكة علاقاته الاجتماعية بوحي الفكرة في انبثاقها، فإنه يتحرك في مسيرته عبر الأشخاص والأشياء المحيطة به فيتخذ العالم الثقافي إطاره في إنجاز هذه المسيرة ويأخذ طابعه تبعاً للعلاقة بين العناصر الثلاثة المتحركة: الأشياء، الأشخاص، الأفكار.

فهناك توازن لابد منه بين هذه العناصر الثلاثة يسكب مزيجها في قوالب الإنجاز الحضاري، فإذا ما استبد واحد من هذه العناصر وطغى على حساب العنصرين الآخرين فثمة أزمة حقيقية في مسيرة الحضارة تلقي بها خارج التاريخ فريسة طغيان الشيء أو طغيان الشخص.

ففي بلد متخلف يفرض الشيء طغيانه بسبب ندرته، تنشأ فيه عقد الكبت والميل نحو التكديس الذي يصبح في الإطار الاقتصادي إسرافاً محضاً. أما في البلد المتقدم وطبقاً لدرجة تقدمه، فإن الشيء يسيطر بسبب وفرته وينتج نوعاً من الإشباع، إنه يفرض شعوراً لا يحتمل من الشؤم البادي من رتابة ما يرى حوله، فيولد ميلاً نحو الهروب إلى الأمام الذي يدفع الإنسان المتحضر دائماً إلى تغيير إطار الحياة وفق صرعات الموضة في كل شيء حوله.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير