تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[ضاد]ــــــــ[09 - 08 - 2008, 12:22 م]ـ

نحن الآن إزاء ظاهرة لغوية خالفت في ظاهرها القواعد النحوية العربية الموحدة ( Standard Arabic) شدت انتباه النحويين منذ القرون الأولى, فردها بعضهم إلى لغة من اللغات, ذلك لأن العربية اختلف ناطقوها فيها, ولقد شرح الأستاذ السليمان بارك الله فيه أصل هذه اللغة ويمكن تتبع ذلك وبرهنته. لكن – حسب رأيي – وإن كانت هذه اللغة موجودة ومتكلما به في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم, فإن التداخل اللغوي غير موروث عنه, وأعني بالتداخل اللغوي التداخل النحوي وليس اللفظي. ووجود هذه الظاهرة في القرآن وفي بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم جعلها من الأهمية بمكان. وما سأحاول أن أضيفه إلى هذا النقاش العلمي الرائع هو تناول لساني لهذه الظاهرة فإن أصبت فيه فمن الله سبحانه وتعالى منّا وفضلا, وإن لم أصب فمن نفسي ومن الشيطان.

هناك ظاهرتان لغويتان يمكن أن يؤدي ظهورهما في الجملة إلى مثل هذه التراكيب من اتباع الفعل للفاعل في الجنس والعدد رغم استباق الفعل للفاعل. هاتان الظاهرتان أكثر ما تكونان في الكلام وتوجدان كذلك في المكتوب, ولكنهما في الأصل أسلوب كلامي وذلك لأن الكلام – عكس الكتابة – لا ينحصر في الألفاظ لتأدية المعاني, بل يلجأ في إلى ظواهر نطقية أخرى كالنبر والحدة والهمس ولغوية كالتركيب والتقديم والتأخير وذلك حسب حاجة المتكلم وظروف الكلام. والمعروف أن العربية الأولى كانت لغة كلامية ثم صارت كتابية بتطور العرب ودخول الإسلام والحاجة إلى الكتابة والتدوين.

هاتان الظاهرتان هما ما سأترجمهما بالاستدراك والاستخراج بالاستقبال والاستبعاد, وهاتان الترجمتان اجتهاد شخصي ولذلك سأضع المصطلحين باللسان الإنغليزي وهما ( After-Thought and Debracketing). وفكرة هاتين الظاهرتين هي ببساطة إخراج عنصر من عناصر الجملة خارج النطاق الإسنادي مع ترك قرينة تدل عليه. (هاتان الظاهرتان وإن شابهتا التقديم والتأخير المعروفين فإنهما تختلفان عنهما)

النطاق الإسنادي = [فعل + فاعل + (مفعول به)]

دخول الظاهرة عليه= (عنصر مستقبل) + [(قرينة) + فعل + (قرينة)] + (عنصر مستبعد)

السهل في هذه العملية هو استخراج المفعول به بالاستقبال, وهذا موجود بكثرة في القرآن وفي كلام العرب ولنا في الآية التالية مثل:

[والسماءَ بنيناها بأيدٍ]

التحليل:

[السماءَ] مفعول به مستخرج بالاستقبال

[بنينا] فعل ماض

[ـها] قرينة على المفعول به المستخرج

أما الاستبعاد فإنه يمكن أن يطرأ على جملة في كلام ويكون بذلك استدراكا, كأن ينسى المتكلم ذكر المفعول به فيستدركه أو يخرجه لحاجة التأكيد, وهذا موجود في لهجات عربية حديثة كثيرة.

[قابلتُه الرجلَ]

التحليل:

[قابلت] فعل ماض

[ـه] قرينة على المفعول به المستخرج

[الرجلَ] مفعول به مستدرك أو مستخرج بالاستبعاد

ويكمن التعقيد أو الصعوبة في هاتين الظاهرتين في التعامل مع الفاعل ذلك لأن العربية لغة إسقاطية للفاعل, لأن الفعل يحمل في تصريفه قرائن تجعل من التعرف على الفاعل المسقط أمر سهلا (رغم التداخل بين ضميري المخاطب المذكر والغائبة في المضارع). وهنا سنرى كيف يمكن للظاهرتين أن تردا في جملة واحدة والفرق بينهما وبين التأخير.

أذكر أن هاتين الظاهرتين كلاميتان في الأصل وأن حدوثهما في الكتابة ممكن. لنأخذ هذا الحديث مثلا:

[يتعاقبون فيكم ملائكة ... ]

لو حدث في الجملة تأخير كما نعرفه لقيل (يتعاقب فيكم ملائكة) , ولكن الذي حدث هو أن الفاعل استخرج من النطاق الإسنادي فانقطعت العلاقة الإسنادية المباشرة بينه وبين الفعل وبقيت العلاقة القرينية المعنوية في الجملة, أي أن الفاعل انقطع عن فعله في الاتباع أو عدمه وصار الفعل حرا بلا فاعل مذكور, والفعل في العربية إذا ورد حرا وجب تصريفه حسب الضمير المقدر ويُرى ذلك فيه. والذي بقي هو العلاقة القرينية المعنوية التي ربطت بين الفعل وفاعله في التركيب (لا في التصريف) وفي المعنى. أعلم أن الأمر يبدو معقدا, وهذا الذي حاول العلماء تفسيره وبه تأويل الجملة فأسندوا فعلها إلى فاعل مضمر. ويكون مثل ذلك بالاستخراج أو الاستدراك ويمكن تصور مقام لمثل هذا المقال كأن يبدأ المتكلم جملته ثم يستدركها أو يستخرج فاعلها عمدا لشد الانتباه أو التوكيد. فتصريف الفعل مع عدم ورود الفاعل وراءه يجعل المستمع ينتبه لأن إضمار الفاعل يعني المعرفة المشتركة به بين المتكلم والمستمع, أما إذا كان هذا الأخير لا يعرفه فإنه ينتبه ويركز. ويمكن أن نتصور (والله تعالى أعلم) الرسول يقول: (يتعاقبون فيكم) ثم يسكت للحظة ثم يتمم الجملة (ملائكة ... ). أما في القرآن فلا يمكن الاستدراك لأنه ليس "كلاما مباشرا من الله" بل هو "كلام قاله تعالى لجبريل وهو نقله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم", وعليه فآية (وأسروا النجوى الذين ظلموا) هي نوع من الاستخراج بالاستبعاد لغاية التنبيه والتوكيد.

وتصعب المسألة حين لا يوجد بين الفعل والفاعل المستخرج فاصل ومع ذلك ينصرف الفعل, مثل الأفعال غير المتعدية لأن نطاقها الإسنادي أضيق من المتعدية.

[فعل + فاعل]

مثال:

[يعودُ الرجالُ]

دخول الاستخراج: [يعودون, الرجالُ] وهنا وجب وضع الفاصلة لتوضيح انقطاع الإسناد.

هاتان هما الظاهرتان وقد حاولت تبسيطهما ما استطعت. وآمل أن أكون أفدتكما ولو بالقليل.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير