تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

2 - أن وصف من روى عمن عاصره ولم يلقه بالتدليس هو المشهور عن أهل الحديث وأئمته كما قال العراقي ([15])، ودلت عليه نصوص بعض كبار الأئمة ومن ذلك:

قول الإمام يعقوب بن شيبة: (فأما من دلس عن غير ثقة، وعمن لم يسمع منه، فقد جاوز حد التدليس الذي رخص فيه من رخص من العلماء) ([16]).

وقول ابن حبان: (ومنهم المدلس عمن لم يره كالحجاج بن أرطاة وذويه كانوا يحدثون عمن لم يروه ويدلسون حتى لا يعلم ذلك منهم) ([17]).

وقول ابن عدي بعد أن ذكر من لم يلقهم سعيد بن أبي عروبة: (وهو مقدم في أصحاب قتادة، ومن أثبت الناس رواية عنه، وثبتًا عن كل من روى عنه إلا من دلس عنهم وهم الذين ذكرتهم ممن لم يسمع منهم) ([18]).

وقول أبي عبدالله الحاكم: (الجنس السادس من التدليس: قوم رووا عن شيوخ لم يروهم قط ولم يسمعوا منهم، إنما قالوا: قال فلان فحمل ذلك عنهم على السماع، وليس عندهم عنهم سماع عال ولانازل) ([19]).

وقول ابن رجب: (وقد كان الثوري وغيره يدلسون عمن لم يسمعوا منه أيضًا) ([20]).

فالراجح عندي في تعريف التدليس ما ذكره الخطيب البغدادي وابن الصلاح، ولكن بشرط لابد من التأكيد عليه في الصورة الثانية وهو الإبهام من الراوي بأنه قد سمع وهو لم يسمع. قال الشيخ المعلمي: (والرواية عن المعاصر على وجه الإبهام تدليس أيضًا عند الجمهور، ومن لم يطلق عليها ذلك لفظًا لا ينكر أنها تدليس في المعنى، بل هي أقبح عندهم من إرسال الراوي على سبيل الإبهام عمن قد سمع منه) ([21]).

وقد نبه المعلمي إلى أن هذا رأي الإمام مسلم فقال: (وصنيع مسلم يقتضي أن الإرسال على أي الوجهين كان إنما يكون تدليٍسًا إذا كان على وجه الإبهام، ويوافقه ما في (الكفاية) للخطيب ص357.

وذكر مسلم أمثله ([22]) فيها إرسال جماعة بالصيغة المحتملة عمن سمعوا منه ولم تعد تدليسًا ولا عدوا مدلسين، ومحمل ذلك أن الظن بمن وقعت منهم أنهم لم يقصدوا الإبهام، وأنهم اعتمدوا على قرائن خاصة كانت قائمة عند إطلاقهم تلك الرواية تدفع ظهور الصيغة في السماع.

ولا يخالف ذلك ما ذكروه عن الشافعي ([23]) أن التدليس يثبت بمرة لأنا نقول: هذا مسلم ولكن محله حيث تكون تلك المرة تدليسًا بأن تكون بقصد الإبهام، والأمثلة التي ذكرها مسلم لم تكن كذلك بدليل

إجماعهم على أن أولئك الذين وقعت منهم تلك الأمثلة ليسوا مدلسين) ([24]).

ومما يجب التنبيه عليه هنا أن من لم يصفه أحد أئمة الجرح والتعديل بالتدليس فلا ينبغي أن يوصف بذلك، فإن بعض الرواة يقع فيما يروونه ما يتطابق مع تعريف التدليس، ولم نجد من الأئمة من وصفهم، كما هو الحال في رواية سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه لم يسمع منه إلا القليل وروى عنه الكثير، ولم أجد من وصف سعيدًا بالتدليس رغم وجود صورة التدليس فيما رواه؛ فلا يجوز لأحد أن يصف راويًا بالتدليس إلا من وصفه الأئمة من أهل الحديث بالتدليس.

ويبقى سؤال حول من عرف بالإرسال هل يكون حكمه حكم المدلس عند مسلم في عدم الاكتفاء بمعاصرته وضرورة البحث عن سماعه فيمن روى عنهم؟

الحقيقة أن مسلمًا لم يتطرق لهذا في كلامه، ولكن القياس الصحيح يملي علينا أن نجعل من عرف بالإرسال وهو التحديث بما لم يسمعه أن يكون حكمه حكم المدلس لأنهما يشتركان في التحديث بما لم يسمعا، فيكون احتمال الإرسال قويًا فيمن عرف بالإرسال، ويجب أن ينزل منزلة المدلس من حيث عدم الاكتفاء بمعاصرته وضرورة البحث عن سماعه قياٍسًا على كلام مسلم في المدلس لاشتراكهما في علة الحكم.

ويؤيد ذلك قول العلائي: (حكم المدلس حكم المرسل) ([25]).

ويؤيده أيضًا قول المعلمي في رواية القاسم بن مخيمرة عن أبي سعيد الخدري: (لقاء القاسم لأبي سعيد مظنون، وبما أنه روى عنه بالعنعنة وهو ثقة غير مدلس، ولا معروف بالإرسال الخفي فالظاهر السماع، وإن لم يعلم صريحًا، فعدم العلم ليس علمًا بالعدم) ([26]).

وفي موضع آخر قال المعلمي: (فإذا جاءنا الحديث من رواية الثقات غير الموصوفين بالتدليس أو الإرسال الخفي إلى ثقة كذلك روى بالعنعنة عمن عاصره وأمكن لقاؤه له ... ) ([27]).

فبين المعلمي في هذين النصين أن من أرسل إرسالاً خفيًا لا يكتفي بعنعنته لمن عاصر كالمدلس.

وإلى هذا ذهب الدكتور نور الدين عتر فبعد أن ذكر أن من شرط قبول العنعنة من المعاصرة عند مسلم ألا يكون مدلسًا قال: (ويلحق بذلك من عرف بالإرسال كالحسن والزهري) ([28]).

وهذا هو الراجح – في نظري – أن من عرف بالإرسال مطلقًا، أو ثبت أنه أرسل إرسالاً خفيًا فهو كالمدلس من حيث عدم قبول معنعنه لمن عاصر لأن من فرق بين ذلك فقد فرق بين متماثلين، ولأن ذم التدليس دون الإرسال ليس فرقًا مؤثرًا في علة الحكم التي هي قوة احتمال عدم السماع فيما رووه بصيغة غير صريحة في الاتصال. والله أعلم.


([1]) مقدمة صحيح مسلم (1/ 33).

([2]) شرح علل الترمذي (1/ 354).

([3]) انظر العلل الكبير للترمذي (2/ 966).

([4]) انظر فتح الباري (3/ 482)، (4/ 274).

([5]) الكفاية (ص38).

([6]) علوم الحديث (ص66).

([7]) الموقظة (ص47).

([8]) الميزان (2/ 426).

([9]) انظر التمهيد (1/ 15) وقد نقل العراقي عبارة ابن عبدالبر بالمعنى.

([10]) التقييد والإيضاح (ص97 - 98).

([11]) الكفاية (ص423).

([12]) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/ 623).

([13]) الكفاية (ص38).

([14]) الكفاية (ص396).

([15]) التقييد والإيضاح (ص97 - 98).

([16]) الكفاية (ص399 - 400).

([17]) كتاب المجروحين (1/ 80).

([18]) الكامل في الضعفاء (3/ 1233).

([19]) معرفة علوم الحديث (ص109).

([20]) شرح علل الترمذي (1/ 358).

([21]) التنكيل (1/ 82).

([22]) انظر مقدمة صحيح مسلم (1/ 31 - 32).

([23]) انظر الرسالة للشافعي (ص379).

([24]) التنكيل (1/ 82).

([25]) جامع التحصيل (ص132).

([26]) عمارة القبور (ل82).

([27]) عمارة القبور (ص86).

([28]) شرح علل الترمذي (1/ 371).
¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير