وإنه ليمكننا بعد تتبع روايات الحديث من طرقها المختلفة التي أشار إليها أو كاد يحصرها ــ فيما يبدو لي ــ الحافظ شمس الدين الذهبي [6]. أقول: يمكننا أن نرد هذه الروايات جميعا إلى مقامين اثنين: أولهما: مقام الكلام عن هيئة آدم ــ عليه السلام ــ عند خلقه. وقد يرد فيه الكلام عن قصة سلامه على الملائكة، وأن من يدخل الجنة من ذرية آدم يدخلها على صورة آدم التي خلقه الله ــ تعالى ــ عليها.
والثاني: مقام النهي عن ضرب وجه الإنسان وتقبيحه. وقد يرد فيه النهي عن الضرب مفردا، أو عن التقبيح، أو عنهما في آن معا.
وألفت الأنظار إلى مجيء روايات في المقامين دون أن تشتمل على لفظ "على صورته"، وإن كانت ترجح أو تقطع أحيانا بعود الضمير الذي أضيف إليه لفظ "الصورة" إلى غير الله ــ تعالى؛ فالضمير يعود إلى آدم ــ عليه السلام ــ في المقام الأول، ويعود إلى المنهي عن ضرب وجهه أو تقبيحه في المقام الثاني. وقد روي ذلك عن أبي هريرة وابن عمر، وعن غيرهما من الصحابة ــ رضي الله عنهم.
أ ــ مقام الكلام عن هيئة آدم ــ عليه السلام ــ عند خلقه:
روى الإمام أحمد عاليا قال: حدثنا عبد الرزاق بن همام، ثنا معمر، عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا به أبو هريرة، فذكر أحاديث منها: قال رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ … [7]. وأخرجه البخاري في الصحيح قال: حدثنا يحيى بن جعفر [8]. وأخرجه الإمام مسلم في الصحيح قال: حدثنا محمد بن رافع [9]. وأخرجه الإمام ابن خزيمة في "التوحيد" قال: حدثنا عبد الرحمن ابن بشر بن الحكم [10]. كلهم حدثه عبد الرزاق بمثل سند الإمام أحمد، واللفظ لمسلم … قال رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ: "خلق الله ــ عز وجل ــ آدم على صورته طوله ستون ذراعا. فلما خلقه قال: اذهب فسلم على أولئك النفر، وهم نفر من الملائكة جلوس، فاستمع ما يجيبونك؛ فإنها تحيتك وتحية ذريتك. قال: فذهب فقال: السلام عليكم. فقالوا: السلام عليك ورحمة الله. قال: فزادوه: ورحمة الله. قال: فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعا، فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن".
وروى الإمام أحمد قال: حدثنا أبو عامر، ثنا المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن موسى بن أبي عثمان، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ قال: "إن الله ــ عز وجل ــ خلق آدم على صورته". وفي كتاب أبي "وطوله ستون ذراعا" فلا أدري حدثنا به أم لا [11].
وهذا الحديث أخرجه ابن خزيمة عن أبي موسى بن محمد بن المثنى قال: حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمر، وساق الإسناد نفسه، ولفظه: "خلق الله آدم على صورته وطوله ستون ذراعا" [12].
وأخرجه "الدارقطني في الصفات" قال: حدثنا أبو شيبة عبد العزيز بن جعفر بن بكر، ثنا المثنى أبو موسى، وساق الإسناد عن أبي عامر، ولفظه نحو لفظ ابن خزيمة [13].
وإني لأحسب أن قراءة الرواية التامة المخرجة في صحيحي البخاري ومسلم تقطع يقينا بعود الضمير في قوله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ "على صورته". إلى آدم ــ عليه السلام .. نقل الطِّيبي في شرح الحديث بمورده من "مشكاة المصابيح" أن الإمام أبا سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي (ت 388هـ) صرح بأن قوله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ: "طوله". بيانٌ لقوله "على صورته". كأنه قيل: خلق الله آدم على ما عرف من صورته الحسنة، وهيئته من الجمال والكمال وطول القامة؛ فالضمير يعود إلى مذكور واحد في الإضافتين [14].
وفي الحديث ملحظ آخر ــ ربما لم يلتفت إليه من قبل حسب مطالعتي لشروحه ــ يؤكد ما صرح به الإمام الخطابي، وذلك أن لفظ "الصورة " ذكر في الحديث مرتين؛ ففي صدر الحديث "خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا". وفي عجزه "فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعا".
¥