أقول: في صدر الحديث كان ذكر آدم ــ عليه السلام ــ قريبا؛ فأضيف لفظ "الصورة" إلى الضمير العائد إليه؛ فآدم أقرب الأسماء المذكورة قبل الضمير، ولا يصرف الضمير إلى غيره إلا بقرينة. فلما ابتعد ذكر آدم ــ عليه السلام ــ أُضِيف لفظ "الصورة" إلى اسمه الصريح في عجز الحديث. وقد رويت هذه الإضافة في أحاديثَ ثابتةٍ في المقام نفسه، منها تكرار الإمام البخاري للرواية التامة من طريق عبد الله بن محمد، عن عبد الرزاق… [15]. وهذه الرواية لم تشتمل على لفظ "على صورته"، ومبدؤها: "خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا ... "، وبقيتها بنحو لفظ أحمد، ويحيى بن جعفر، ومحمد بن رافع، وعبد الرحمن بن بشر.
وأخرج البخاري عقب ذلك .. قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن عمارة، عن أبي زُرْعة، عن أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ: "إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة. لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يتفلون ولا يمتخطون. أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الأَلُوَّة ــ الأَلَنْجُوج عود الطيب ــ وأزواجهم الحور العين. على خَلْق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم: ستون ذراعا في السماء" [16].
وأخرجه الإمام مسلم متابعا عن قتيبة بمثل إسناد البخاري وغيره، كما أخرجه من طرق أخرى بلفظ "على صورة أبيهم آدم: ستون ذراعا في السماء" ولفظ "على طول أبيهم آدم: ستون ذراعا" [17].
ولعلنا ــ إذ نراعي مفهوم هذه الأحاديث جميعا ــ ندرك دلالة لفظ "الصورة"، ونعي إطلاقه في هذا المقام على هيئة الخلق أو المخلوق من الوضاءة، والطول، والعرض في روايات أخرى لم تبلغ درجة ما تقدم صحة وإثباتا [18]. وقد بُيِّنَتْ الوَضَاءةُ بوَضاءةِ القمر والكوكب الدُّرِّيِّ، والطول ستون ذراعا، والعرض سبعة أذرع. وهذه كيفيات وكميات محددة معلومة ومعقولة في صفات الخلق، والله ــ جل وعلا ــ ليس كمثله شيء، ولا لصفاته العلا حد يدركه عقل، أو يتمثلُه وَهْم.
قال العلامة بدر الدين العيني في شرح رواية البخاري من طريق يحيى بن جعفر: "قوله على صورته". أي على صورة آدم لأنه أقرب. أي خلقه في أول الأمر بشرا سويا، كامل الخلقة، طويلا: ستين ذراعا ... ، بخلاف غيره فإنه يكون أولا نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم جنينا، ثم طفلا، ثم رجلا؛ حتى يتمَّ طوله، فله أطوار.
وقال ابن بطال: أفاد ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ بذلك إبطال قول الدُّهْرِيَّة: إنه لم يكن قط إنسان إلا من نطفة، ولا نطفة إلا من إنسان ... " [19].
وقال الإمام النووي في شرح رواية مسلم من طريق محمد بن رافع: "خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا ... ": "هذه الرواية ظاهرة في أن الضمير في "صورته" عائد إلى آدم، وأن المراد أنه خلق في أول نشأته على صورته التي كان عليها في الأرض وتوفي عليها، وهي طوله ستون ذراعا، ولم يتنقل أطوارا كذريته، وكانت صورته في الجنة هي صورته في الأرض لم تتغير" [20].
وقال الحافظ ابن حجر في شرح رواية البخاري من طريق عبد الله بن محمد: "وهذه الرواية تؤيد قول من قال: إن الضمير لآدم. والمعنى أن الله ــ تعالى ــ أوجده على الهيئة التي خلقه عليها، لم ينتقل في النشأة أحوالا، ولا تردد في الأرحام أطوارا كذريته؛ بل خلقه الله رجلا كاملا سويا من أول ما نفخ فيه الروح. ثم عقب ذلك بقوله: "وطوله ستون ذراعا". فعاد الضمير أيضا على آدم" [21].
ب ــ مقام النهي عن ضرب وجه الإنسان وتقبيحه:
من أصح ما روي في النهي عن ضرب وجه الإنسان ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي، حدثني أبي، حدثنا المثنى.
وحدثني محمد بن حاتم، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن المثنى بن سعيد، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ.
وفي حديث ابن حاتم، عن النبي ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ قال: "إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه؛ فإن الله خلق آدم على صورته" [22].
ورواية نصر بن علي الجهضمي أخرجها الإمام ابن خزيمة بإسناد مسلم نفسه، ولفظه: "إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه؛ فإن الله خلق آدم على صورته" [23].
¥