تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولكنني أشير هنا إلى دقة الإمام مسلم بن الحجاج في ضبط الرواية ومراعاة مقامها في ترتيب صحيحه؛ فإنه أخرج حديثه فيما تُرْجِم له بعد ذلك بباب النهي عن ضرب الوجه من كتاب البر والصلة والآداب، ولم يكرره جامعا بينه وبين أحاديث التوحيد والصفات. وهذا ــ في رأيي ــ يوضح موقفه من مفهوم الحديث، وأنه لا يعده من أخبار الصفات. ومما يرجح ذلك لدي ملحظ آخر يدركه من يعايش صحيح مسلم ويستشعر دقة الإمام في تدوين مروياته، وذلك أنه ذكر للحديث إسنادين: أولهما من طريق نصر بن علي الجهضمي، عن أبيه، عن المثنى. والثاني من طريق محمد بن حاتم، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن المثنى بن سعيد، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن أبي هريرة مرفوعا. ثم ذكر لفظ ابن حاتم فقط، ولم يشر إلى موافقته أو مخالفته للفظ الجهضمي كما اعتاد في روايته للحديث الواحد من عدة طرق [47]. ولعل الإمام يشير بذلك إلى أحد أقسام العلل؛ فمنها العلة في المتن وتقدح فيه دون الإسناد [48].

قال الإمام مسلم: وفي حديث ابن حاتم، عن النبي ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ قال: "إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه؛ فإن الله خلق آدم على صورته". وهذا المتن يشتمل على ذكر المضروب "أخاه" الذي بُيِّنَتْ علة النهي عن ضرب وجهه بأن آدم خلق على صورته. وكذلك كانت متون الروايات الخمس التي أخرجها الإمام مسلم في الباب نفسه بغير ذكر التعليل [49].

أما متن رواية نصر الجهضمي الذي اعتبر الإمام مسلم إسناده ولم يعتبر ــ فيما يبدو لي ــ لفظه؛ فقد أخرجه ابن خزيمة في "التوحيد" ــ كما سبق أن بَيَّنتُ ــ بإسناد مسلم نفسه، ولفظه: "إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه؛ فإن الله خلق آدم على صورته".

وإمام الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة (ت 311هـ) لم يشترط في كتابه "التوحيد" إخراج الصحيح فحسب، وليس في وسع أحد ادعاء تحقق درجة الصحة لجميع أحاديث ذلك الكتاب. أضف إلى ذلك أن رواية الإمام مسلم من طريق محمد بن حاتم هي الأتم والأكمل، وإنما يكون منهج السلف الصالح في الاستشهاد بالروايات التامة، وحمل الناقص عليها، وتفسيره بها. ويمكننا إدراك ذلك بوضوح في منهج الإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256هـ) في كتابه الجليل "خلق أفعال العباد"؛ فإنه أفسد احتجاج المقررين "خلق القرآن" بقول رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" يزعمون أن فاتحة الكتاب في ظاهر لفظ الحديث جزء من الصلاة، والصلاة من أفعال العباد، وأفعال العباد مخلوقة.

ورأيُ الإمام البخاري أن هذا الاستدلال فيه جهل ظاهر؛ فقد أغفل صاحبه الأخبار المفسرة المستفيضة عند أهل الحجاز والشام والعراق، وأهل الأمصار عن رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ. قال البخاري: "إنما قال النبي ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". وأفصح أن قراءة القارئ وتلاوته غير المقروء والمتلو، وإنما المتلو فاتحة الكتاب لا اختلاف فيه بين أهل العلم".

وأسند البخاري بعد ذلك حديثه من طرق أهل الأمصار المتعددة إلى الصحابي الجليل عبادة بن الصامت ــ رضي الله عنه ــ مرفوعا، ثم قال: "وروى بعضهم "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب". وهو على معنى قوله: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". لأنه لا صلاة إلا بقراءة ... " [50].

وبناء على هذا يمكننا أن نفهم الروايات المتعددة في مقام النهي عن ضرب الوجه وتقبيحه في ضوء رواية الإمام مسلم، وما وافقها من الروايات المشتملة على ذكر المنهي عن ضرب وجهه وتقبيحه صراحة كما جاء في رواية ابن خزيمة من طريق الربيع بن سليمان المرادي في النهي عن تقبيح الوجه، أو بضمير ظاهر يعود إليه كما جاء في رواية الإمام أحمد من طريق يحيى بن سعيد القطان في النهي عن ضرب الوجه وتقبيحه. وكل ذلك صحيح الإسناد.

وروى الأمام أحمد قال حدثنا عبد الصمد، ثنا حماد، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة إن رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ قال: "إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه". وروى عن عبد الرزاق، أنا سفيان، عن الأعمش، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ مثله [51].

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير