وإذا اعتمدنا رواية الإمام مسلم على أنها الأضبط والأصح، وأنها الأتم والمفسرة لما عداها من الروايات الأخرى؛ فظاهر هذه الرواية ــ كما صرح النووي في شرحها ــ أن الضمير في قوله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ: "على صورته". يعود إلى الأخ المضروب [52]. وقال الحافظ ابن حجر عندما ذكرها في شرحه لحديث البخاري في كتاب العتق ــ باب إذا ضرب العبد فليجتنب الوجه: "فالأكثر على أنه يعود على المضروب لما تقدم من الأمر بإكرام وجهه، ولولا أن المراد التعليل بذلك لم يكن لهذه الجملة ارتباطها بما قبلها" [53].
ومما يؤكد عود الضمير إلى المنهي عن ضرب وجهه وتقبيحه أن ذلك النهي لم يتعلق بوجه الإنسان من ولد آدم فحسب؛ بل تجاوزه إلى وجوه البهائم من الحيوان؛ فقد ثبت أن النبي ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ نهى عن ضرب وجهها ووسمها، وأنه لعن من يفعل ذلك صراحة قبالة أمره من لطم خادمه أن يعتقه كفارة. والذنب الذي له كفارة معلومة أهون من ذنب استحق صاحبه اللعن الصريح من رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ. ألا ترى أن اليمين الغموس التي لم ينص على كفارتها أشد وعيدا من المنعقدة المعومة الكفارة.
أخرج الإمام مسلم في صحيحه قال: حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد، وحدثني أبي، حدثنا شعبة قال: قال لي محمد بن المنكدر: ما اسمك؟ قلت شعبة. قال محمد: حدثني أبو شعبة العراقي، عن سويد بن مقرن أن جارية له لطمها إنسان، فقال له سويد: أما علمت أن الصورة محرمة؟ فقال: لقد رأيتني وإني لسابع إخوة لي مع رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ وما لنا خادم غير واحد، فعمد أحدنا فلطمه؛ فأمرنا رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ أن نعتقه.
قال مسلم: وحدثناه إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن المثنى، عن وهب بن جرير، أخبرنا شعبة قال: قال لي محمد بن المنكدر: ما اسمك؟ فذكر بمثل حديث عبد الصمد [54].
وقبالة ذلك أخرج الإمام مسلمٌ قال: حدثني سلمة بن شبيب، حدثنا الحسن بن أعين، حدثنا معقل، عن أبي الزبير، عن جابر أن النبي ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ مر عليه حمار قد وُسِمَ في وجهه؛ فقال: "لعن الله الذي وسمه" [55].
وأخرج أبو داود بإسناد له من طريق أبي الزبير عن جابر مرفوعا، ولفظه: "أما بلغكم أني [قد] لعنت من وَسم البهيمة في وجهها، أو ضربها في وجهها" [56].
وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" بإسناده عن أبي الزبير عن جابر قال: مر النبي ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ بدابة قد وُسِمَ يُدَخِّنُ مَنْخِراه. قال النبي ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ: "لعن الله من فعل هذا. لا يَسِمَنَّ أحدٌ الوجه ولا يَضْرِبَنَّه" [57].
وأخرج الإمام مسلمٌ أيضا قال: حدثنا أحمد بن عيسى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب، أن ناعما أبا عبد الله مولى أم سلمة حدثه أنه سمع ابن عباس يقول: ورأى رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ حمارا موسوم الوجه؛ فأنكر ذلك. قال: "فوالله لا أسِمُهُ إلا في أقصى شيء من الوجه". فأمر بحمار له فكُوِيَ في جاعرتيه؛ فكان أول من كوَى في الجاعرتين [58].
أريد أن أخلص من ذلك إلى أن النهي عن ضرب وجه الإنسان لا يعلل بأن الله ــ تعالى ــ خلق آدم ــ عليه السلام ــ على صورته، مع عود الضمير إلى الله ــ جل وعلا ــ حتى لو قيل: إن الإضافة كانت للتشريف والتكريم؛ فلم خص الوجه، والله خلق جميع أعضاء آدم وكرمه وأبناءه جميعا؟!
وقد ظهر لنا أيضا أن حكم النهي ليس خاصا بوجه الإنسان، وهذا يعني أنَّ هناك وجوهَ اشتراكٍ في التعليل بين النهي عن ضرب وجه الإنسان وتقبيحه والنهي عن ضرب وجه البهيمة ووسمه؛ فالاشتراك في الحكم يلزم عنه الاشتراك في العلة. والوجه من الإنسان والبهيمة لطيف أعضاؤه نفيسة بها أكثر الإدراك، وقد يُشَوِّهُهَا الضربُ أو يَنْقُصُ منها. وفي ذلك ما فيه من الشين الذي يربأ الإسلام بأهله أن يَتَلبَّسُوا به، وفيه من العيب ما قد يُفَوِّتُ الانتفاعَ بالبهيمة.
¥