ولقد كان سفيان الثوري من تلاميذ الأعمش، وهو أعلم الناس بحديثه كما قال يحيى بن معين؛ بل إن يحيى بن سعيد القطان ليقول: كان سفيان أعلم بحديث الأعمش من الأعمش .. ونقل الخطيب بإسناده عن زائدة قال: كنا نأتي الأعمش فنكتب عنه، ثم نأتي سفيان فنعرض عليه؛ فيقول لبعضها: ليس هذا من حديث الأعمش. فنقول: إنما حدثناه الآن. فيقول: اذهبوا إليه فقولوا له. فيقول: صدق سفيان. فمحاه [105].
وكان سفيان الثوري يقول: ما استودعت قلبي شيئا فخانني قط [106].
وإذا طرحنا رواية الأعمش الشاذة الإسناد لرجحان رواية الثوري المرسلة؛ فللعلماء في قبول المرسل آراء ..
أ ــ جمهور علماء الحديث لا يحتج بالروايات المرسلة، وقد قال الإمام مسلم بن الحجاج في مقدمة صحيحه في كلام ذكره على وجه الإيراد ولم يبطله: "والمرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ــ ليس بحجه" [107]. وقال الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي (ت 279هـ): "الحديث إذا كان مرسلا؛ فإنه لا يصح عند أكثر أهل الحديث، وقد ضعفه غير واحد منهم" [108]. وقال الحافظ صلاح الدين العلائي: "وهو الذي عليه جمهور أهل الحديث، أو كلهم؛ فهو قول عبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن معين، وابن أبي شيبه، ثم أصحاب هؤلاء كالبخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن خزيمة، وهذه الطبقة. ثم من صنف في الأحكام فَقَلَّ من يدخل منهم في كتابه المراسيل إذا كان مقصورا على إخراج الحديث المرفوع ...
قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي وأبا زُرْعة يقولان: لا يحتج بالمراسيل، ولا تقوم الحجة إلا بالأسانيد الصحاح المتصلة.
وهذا هو قول جمهور الشافعية، واختيار إسماعيل القاضي، وابن عبد البر، وغيرهما من المالكية. والقاضي أبي بكر الباقلاني، وجماعة كثيرين من أئمة الأصول ... " [109].
ب ــ وذهب إلى قبول المرسل بعض العلماء؛ مثل: أبي حنيفة، ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وأكثر المعتزلة [110].
والظاهر لي أن رأي أئمة الفقه الثلاثة متعلق بكلامهم في مسائل الفقه والفروع؛ حيث يُقَدَّمُ المُرْسَلُ على الرأي والاجتهاد. ورأي أكثر المعتزلة مرتبط بكلامهم في الشرعيات التَعبُّدِيَّة؛ حيث لا يستطيع العقل إدراك وجوه التحسين والتقبيح على وجه التفصيل؛ فمن قسمة الواجبات عند القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني المعتزلي (ت 415هـ) أنها تنقسم إلى عقلي وشرعي .. قال: "فالشرعي هو ما استفيد وجوبه بالشرع، وذلك نحو: الصلاة، الصيام، والحج، وما جرى هذا المجرى" [111]. وقال في موضع آخر: "وجوب المصلحة وقبح المفسدة مُتقَرِّران في العقل، إلا أنا لمَّا لم يمكنا أن نعلم عقلا أن هذا الفعل مصلحة وذلك مفسدة؛ بعث الله إلينا الرسل ليعرفونا ذلك …" [112].
وإذا كان المقصود بلفظ "الشرع" في كلام القاضي عبد الجبار ــ المعبر عن وجهة نظر أكثر المعتزلة كما نفهم من كلام فخر الدين الرازي [113]ــ هو دلالة السمع أو النقل؛ فيمكننا أن نُقَرِّرَ أن أكثر المعتزلة يرَوْنَ أن بيان التكاليف الدينية التَعبُّدِيَّة مما لا سبيل إليه إلا من طريق النقل، وهنا يكون قَبُولُهُمْ للروايات المُرْسَلة فيما حكاه عنهم الحافظ العلائي.
ج ــ وذهب بعض العلماء إلى التفصيل؛ فلم يقولوا بالقَبُول المطلق ولا الرفض المطلق للروايات المرسلة، وإنما وضعوا مجموعة من الشروط تتعلق براوي الخبر المُرْسَل؛ مثل:
1 ــ أن لا يُعرف له رواية عن غير مقبول الرواية من مجهول أو مجروح.
2 ــ أن لا يكون ممن يُخالِفُ الحُفَّاظَ إذا أسند الحديث فيما أسندوه.
3 ــ أن يكون من كبار التابعين؛ فإنهم لا يروون غالبا إلا عن صحابي أو تابعي كبير، والغالب في أحاديث هؤلاء في وقتهم الصحة. وأما من بعدهم؛ فانتشرت في أيامهم الأحاديث المستحيلة الباطلة.
واشترطوا في مَتْن الخَبَرِ المُرْسَل أن يَعْضُدَه ما يَدُلُّ على صحته وأن له أصلا؛ مثل:
1 ــ أن يُسنده الحفاظ المأمونون من وجه آخر عن النبي ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ بمعنى ذلك المرسل؛ فيكونَ دليلا على صحة المُرْسَل، وأنَّ الذي أرْسَلَ كان ثقة.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: هذا ظاهر كلام الشافعي ... ، وكلامه إنما هو في صحة المُرْسَل وقَبوله، لا في الاحتجاج به للحكم الذي دلَّ عليه.
¥