بعضهم أنَّ الحكم للأحفظ، فإذا كان من أرسله أحفظ ممن وصله؛ فالحكم لمن أرسله …
ومنهم من قال: الحكم لمن أسنده إذا كان عدلا ضابطا، فيُقبل خبره وإنْ خالفه غيره، سواء كان المخالف له واحدا أو جماعة. قال "الخطيب": هذا القول هو الصحيح [عندنا؛ لأنَّ إرسال الراوي للحديث ليس بجرح لمن وصله ولا تكذيب له، ولعلَّه أيضا مُسْنَدٌ عند الذين رَوَوْهُ مُرْسَلا أو عند بعضهم، إلا أنَّهم أرسلوه لغرض أو نسيان، والناسي لا يُقْضَى به على الذاكر].
(قال الشيخ ابن الصلاح:) قلت: وما صححه هو الصحيح في الفقه وأصوله. وسئل "البخاري" عن حديث "لا نكاح إلا بولي" المذكور؛ فحكم لمن وصله، وقال: الزيادة من الثقة مقبولة. فقال "البخاري" هذا، مع أنَّ من أرسله "شعبة، وسفيان" وهما جبلان لهما من الحفظ والإتقان الدرجة العالية.
ويلتحق بهذا ما إذا كان الذي وصله هو الذي أرسله، وصله في وقت وأرسله في وقت. وهكذا إذا رفع بعضهم الحديث إلى النبي ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ، ووقفه بعضهم على الصحابي، أو رفعه واحد في وقت ووقفه هو أيضا في وقت آخر؛ فالحكم على الأصَحِّ في كلِّ ذلك لما زاده الثقة من الوصل والرفع؛ لأنه مثبت وغيره ساكت، ولو كان نافيا فالمُثْبِتُ مُقَدَّم عليه؛ لأنه علم ما خفي عليه. ولهذا الفصل تَعَلُّقٌ بفصل (زيادة الثقة في الحديث) [121].
وفي الكلام عن "معرفة زيادات الثقات وحكمها" بيَّن الشيخ ابن الصلاح أن ما ينفرد به الثقة ينقسم إلى ثلاثة أنواع:
1 ــ زيادة مُخالفة مُنافية لما رواه سائر الثقات. وحكمها الردّ.
2 ــ زيادة ليس فيها منافاة ومخالفة أصلا لما رواه الثقات، كالحديث الذي تفرد برواية جملته ثقة، ولا تعَرُّضَ فيه لما رواه الغير بِمُخالفة أصلا؛ فهذا مقبول .. قال ابن الصلاح: "وقد ادعى "الخطيب" فيه اتفاق العلماء" [122].
3 ــ ما يقع بين هاتين المرتبتين؛ مثل زيادة لفظة في حديث لم يذكرها سائر مَنْ روى ذلك الحديث .. قال الإمام محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت 676هـ) في "التقريب": "هذا يشبه الأول ويشبه الثاني …، والصحيح قبول هذا الأخير". ومثل له الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السَّيُوطي (ت 911هـ) في شرحه "تدريب الراوي" بحديث الشيخين عن ابن مسعود: سألت رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ: أي العمل أفضل؟ قال: "الصلاة لوقتها" [123]. وقد زاد فيه بعض الثقات: "لأول وقتها"، في روايات صحَّحها ابن خزيمة وابن حِبَّان والحاكم [124].
ثُمَّ قال الشيخ ابن الصلاح: "أما زيادة الوصل مع الإرسال؛ فإن بين الوصل والإرسال من المخالفة نَحْوَ ما ذكرناه، ويزداد ذلك بأنّ الإرسال نوعُ قَدْحٍ في الحديث؛ فترجيحه وتقديمه من قبيل تقديم الجرح على التعديل. ويُجاب عنه بأنّ الجرح قُدِّمَ لما فيه من زيادة العلم، والزيادة هنا مع مَنْ وَصَل" [125].
ووافقه على ذلك السراج البُلْقِينيّ أبو حفص عمر بن رسلان المصري الشافعي (ت 805هـ) في كتابه "محاسن الاصطلاح وتضمين كتاب ابن الصلاح"؛ مُؤكدًا أنّ الإرسال نقص في الحفظ؛ لما جُبِل عليه الإنسان من السهو والنسيان، وأنّ زيادة العلم إنّما هي مع من أسند؛ ومُعارضًا بذلك ما قال به مثلُ أبي عبد الرحمن النَّسائي، ورجحه الإمام يحيى بن سعيد القطّان وغيرُه من كبار علماء الحديث [126].
وإنَّني لا أنكرُ طُولَ وُقُوفِي بين يَدَيْ هذا الكلام وتأمُّلي له بعمق، كما لا أُنكرُ أنِّي تَرَدَّدت وكِدت أرجع عن نُصرةِ رأي الإمام الحافظ ابن خزيمة في إعلال حديث "صورة الرحمن" بمخالفة الأعمش للثوري في الإسناد؛ حتَّى قارَنْتُ بين كلام الشيخ ابن الصلاح في هذا الموضع وبين كلامه وكلام غيره عن "الحديث المُعَلَّل" [127]، وجمعتُ ما وسعني جمعُه من طرق الحديث وألفاظه المختلفة، ثُمَّ نظرتُ في ذلك كلِّه فانكشف لي صدقُ رأي إمام الأئمة الحافظ ابن خزيمة، وتأكَّد عندي صواب نقده ورفضه للاحتجاج بخَبَر "صورة الرحمن" بإثبات تلك العِلَّة خاصَّة، وبما ظهر لي في اختلاف الرواة عن جرير بن عبد الحميد الذي انفرد برواية الخبر عن سليمان بن مهران الأعمش.
¥