ثُمَّ إن بعض أهل العلم قد وصل الحديث من طريق سفيان الثوري وشعبة .. ضعَّف الترمذي ذلك، وقوَّاه غيره كابن الجارود عبد الله بن علي النيسابوري (ت 307هـ) الذي أخرجه متصلا من طريق سفيان [132]، وأبي عبد الله الحاكم (ت 405هـ) الذي أخرجه متصلا من طريق النعمان بن عبد السلام، عن سفيان وشعبة في إسناد واحد، وقال: "قد جمع النعمان بن عبد السلام بين الثوري وشعبة في إسناد هذا الحديث ووصله عنهما، والنعمان بن عبد السلام: ثقة مأمون. وقد رواه جماعة من الثقات عن الثوري على حدة، وعن شعبة على حدة؛ فوصلوه …" [133].
وقد قال أبو حاتم محمد بن حبّان (ت 354هـ): "سمع هذا الخبر أبو بُرْدة عن أبي موسى مرفوعا، فمرة كان يحدث به عن أبيه مسندا، ومرة يرسله. وسمعه أبو إسحاق بن أبي بُرْدة مرسلا ومسندا معا، فمرة كان يحدث به مرفوعا، وتارة مرسلا؛ فالخبر صحيح مرسلا ومسندا معا لا شك ولا ارتياب في صحته" [134].
و لكل ما نقلتُه لا نستطيع أن نقبل ما نسبه الشيخ ابن الصلاح للإمام البخاري؛ فقد رأينا أنّ حكم البخاري لمن وصل حديث "لا نكاح إلا بولي" يحتمل الرجوعَ إلى غير ما ذكره من قَبول زيادة الثقة، ولو كانت في الإسناد الذي يُخالفُ فيه مثل شعبة بن الحجاج وسفيان الثوري اللذين بلغا رتبة "أمير المؤمنين" في الحديث.
أما النظر إلى ترجيح المُرسَل على المتصل باعتباره نوعا من الجَرْحِ، والجرحُ المُفَسَّر مُقَدَّم على التعديل لزيادة العلم في قواعد المُحَدِّثين؛ فباطل كما بَيَّنَ ابن الصلاح والسراجُ البُلْقِينيّ. لكنَّ بطلان الدليل لا يعني بطلان المدلول حتما، وإنَّما يكون الترجيح الحق بالنظر في حال الضبط بالحفظ أو الكثرة بين المُرْسٍل والمُتَّصِل [135].
ولا يُقال هنا: تُقْبَلُ زيادةُ الثقة؛ لأنه لو انفرد بحديث وَجَب قَبولُه. وذلك لأنه حينما ينفرد لا يكون هناك مدخل للشك في ضبطه ما دام ثقةً، وإنما يكون الشك وتجب الموازنة والترجيح حينما يُخالفه غيره من الثقات، ومن هنا لَزِم النظر في طرق الحديث واختلاف ألفاظه؛ لاختيار الأكثر ضبطا في السند والمتن.
وإذا رجعنا البصر كرة أخرى نتأمل الروايات المختلفة من طريق الأعمش بمعزل عن إسناد الثوري؛ فسنجد ما يدل أيضا على ضعف روايات "صورة الرحمن" وسقوطها عن رتبة الاحتجاج لثبوت العقائد؛ فقد رواها عن الأعمش راوٍ واحدٌ هو جرير بن عبد الحميد بن قُرْط الضَّبِّي (ت 188هـ) .. قال عنه الحافظ ابن جحر العسقلاني: "ثقة صحيح الكتاب. قيل: كان في آخر عمره يَهِمُ من حفظه" [136].وقال عنه سبط ابن العجمي: "لكن البيهقي في سننه في ثلاثين حديثا لجرير بن عبد الحميد قال: قد نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ" [137].
وقد روى عن جرير ــ فيما اجتمع لدي ــ ثمانية رواة:
1 ــ إسحاق بن إسماعيل الطالقاني (ت 225هـ): ثقة تُكلِّم في سماعه من جرير وحده [138].
2 ــ هارون بن معروف المروزي (ت 231هـ): ثقة [139].
3 ــ أبو خيثمة زهير بن حرب بن شداد (تُوفِّي في شعبان 234هـ): ثقة ثبت، روى عنه مسلمٌ أكثر من ألف حديث [140].
4 ــ أبو الربيع الزهراني سليمان بن داود العتكي (تُوفِّي في رمضان 234هـ): ثقة، لم يتكلم فيه أحد بحجة [141].
5 ــ أبو معمر إسماعيل بن إبراهيم بن معمر الهذلي القطيعي (ت 236هـ): ثقة مأمون [142].
6 ــ إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المروزي ــ ابن راهُويه ــ (ت 238هـ): ثقة حافظ مجتهد [143].
7 ــ عثمان بن محمد بن إبراهيم ــ أبو الحسن بن أبي شيبة ــ (ت 239هـ): ثقة حافظ شهير، وله أوهام [144].
8 ــ يوسف بن موسى بن راشد القطان (ت 253هـ): صدوق [145].
أما إسحاق بن إسماعيل؛ فقد ضُعِّفَتْ روايته عن جرير .. قال عبد الله بن علي بن المديني: سمعت أبي يقول: كان إسحاق بن إسماعيل معنا عند جرير، وكانوا ربما قالوا له ــ يعني البغداديين ــ: جئني بتراب. وجرير يقرأ، فيقوم. وضَعَّفَهُ [146].
¥