وهذا العلم اليقيني النظري يبدو ظاهرًا لكل من تبحر في علم من العلوم، وتيقنت نفسه بنظرياته، واطمأن قلبه إليها، ودع عنك تفريق المتكلمين في اصطلاحاتهم بين العلم والظن، فإنما يريدون بها معنى آخر غير ما تريد، ومنه زعم الزاعمين أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص إنكارًا لما يشعر به كل واحد من الناس من اليقين بالشيء ثم ازدياد هذا اليقين: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّه قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيما نقله عنه ابن القيم وقد قسم الأخبار إلى تواتر وآحاد، فقال بعد ذكر التواتر:
وأما القسم الثاني من الأخبار: فهو ما لا يرويه إلا الواحد العدل ونحوه ولم يتواتر لفظه ولا معناه، ولكن تلقته الأمة بالقبول عملا به أو تصديقًا كخبر عمر بن الخطاب إنما الأعمال بالنيات.
وخبر ابن عمر نهى عن بيع الولاء وهبته، وخبر أنس دخل مكة وعلى رأسه المغفر، وخبر أبو هريرة لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها.
وكقوله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.
وقوله: إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل.
وقوله في المطلقة ثلاثا: حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك.
وقوله: لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ.
وقوله: إنما الولاء لمن أعتق.
وقول ابن عمر رضي الله عنهما: فرض النبي -صلى الله عليه وسلم- صدقة الفطر في رمضان على الصغير والكبير والذكر والأنثى.
وأمثال ذلك، فهذا يفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمة أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- من الأولين والآخرين.
أما السلف فلم يكن بينهم في ذلك نزاع، وأما الخلف فهذا مذهب الفقهاء الكبار من أصحاب الأئمة الأربعة، والمسألة منقولة في كتب الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية مثل السرخسي وأبو بكر الرازي من الحنفية، والشيخ أبي حامد وأبي الطيب والشيخ أبي اسحاق من الشافعية، وابن خواز منداد وغيره من المالكية، ومثل القاضي أبي يعلى وابن أبي موسى وأبي الخطاب وغيرهم من الحنبلية، ومثل أبي إسحاق الإسفراييني وابن فورك وأبي إسحاق النظام من المتكلمين.
وإنما النزاع في ذلك طائفة كابن الباقلاني ومن تبعه مثل أبي المعالي والغزالي وابن عقيل.
وقد ذكر أبو عمرو بن الصلاح القول الأول وصححه واختاره ولكنه لم يعلم كثرة القائلين به ليتقوى بهم، وإنما قاله بموجب الحجة الصحيحة، وظن من اعترض عليه من المشايخ الذين لهم علم ودين وليس لهم بهذا الباب خبرة تامة أن الذي قاله الشيخ أبي عمر وانفرد به عند الجمهور - إلى أن قال -: قال: وجميع أهل الحديث على ما قاله أبو عمرو والحجة على قول الجمهور أن تلقي الأمة للخبر تصديقًا وعملا، إجماعًا منهم، والأمة لا تجتمع على ضلالة - إلى قوله -: والأمة معصومة من الخطأ في رواياتها ورأيها ورؤياها، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر.
فجعل تواطؤ الرؤيا دليلا على صحتها ... إلى أن قال: واعلم أن جمهور أحاديث البخاري ومسلم من هذا الباب، كما ذكره الشيخ أبو عمرو ومن قبله من العلماء كالحافظ أبي الطاهر السلفي وغيره، فإن ما تلقاه أهل الحديث وعلماؤه فالتصديق والقبول فهو محصل للعلم مفيد لليقين، ولا غيره بمن عداهم من المتكلمين والأصوليين، فإن الاعتبار في الإجماع على كل أمر من الأمور الدينية بأهل العلم به دون غيرهم ...
إلى قوله: فكما أن العلم بالتواتر ينقسم إلى عام وخاص فيتواتر عند الخاصة مالا يكون معلومًا لغيرهم فضلا أن يتواتر عندهم .. إلى قوله: وبالجملة فهم جازمون بأكثر الأحاديث الصحيحة قاطعون بصحتها عنه وغيرهم لا علم عنده بذلك، والمقصود أن هذا القسم من الأخبار يوجب العلم عند جمهور العقلاء ... إلى قوله: وأما خبر الواحد الذي أوجب الشريعة تصديق مثله والعمل به، بأن يكون خبر عدل معروف بالصدق والضبط والحفظ، فهذا في إفادته للعلم قولان هما روايتان منصوصتان عن أحمد:
¥