هل ما زلتُ أقول بأن خلق الأرض كلها كان قبل خلق السماء؟ أي هل الأيام الأربعة متتالية وليست متفرقة؟ نعم، فهذا قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء)، فجميعُ ما في الأرض خُلِقَ قبل استوائه سبحانه إلى السماء، والدحو إنما كان بعد خلق السماء. هذا هو ظاهر القرآن، وبه قال الطبري: ((وليس في دحوِ الله الأرضَ بعد تسويته السماوات السبع وإغطاشه ليلها وإخراجه ضحاها، ما يوجب أن تكون الأرض خُلقت بعد خلق السماوات: لأن الدحو إنما هو البسط في كلام العرب)). اهـ وكذا قال ابن كثير: ((لَمَّا أُكْمِلَت صورة المخلوقات الأرضية ثم السماوية، دحى بعد ذلك الأرض، فأخرجت ما كان مودعاً فيها من المياه)). اهـ
وقد أخذا مِن كلام ابن عبّاس أن الله خلق الأرض غير مدحوّة ثم خلق السماء، ثم بعد ذلك دحا الأرض. لكنهما تركا مِن كلام ابن عبّاس أن الدحو كان في يومين، وذلك لأن خلق السماوات تمَّم الأيامَ الستة وليس الدحوُ بداخلٍ في الأيام الأبعة لخلق الأرض وما فيها.
وقد قال الطبراني في تفسيره (البقرة 29): ((فإن قيل: هذه الآية تقتضي أن خلق السماء بعد الأرض، وقال تعالى في آيةٍ أُخرى: "أَمِ ?لسَّمَآءُ بَنَاهَا" ثم قال: "وَ?لأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا"؟ قِيْلَ: مجموعُ الآيتين يدلُّ على أن خَلْقَ الأرضِ قَبْلَ السَّماء، إلا أنَّ بَسْطَ الأرضِ بعد خَلْقِ السَّماء)). اهـ
وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية: ((فإن قلت: أما يناقض هذا قوله: "وَ?لاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـ?هَا"؟ قلت: لا، لأن جرم الأرض تقدم خلقُه خلقَ السماء، وأمّا دحوها فمتأخر)). اهـ
وبه قال النسفي في تفسير هذه الآية: ((ولا يناقض هذا قوله "وَ?لأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـ?هَا" لأن جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماء، وأما دحوها فمتأخر)). اهـ
وقال السمرقندي في تفسيره لهذه الآية: ((فإن قيل: قد قال في آيةٍ أخرى "أَمِ ?لسَّمَآءُ بَنَـ?هَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا" إلى قوله "وَ?لأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـ?هَا" فذكر في تلك الآية أن الأرض خلقت بعد السماء، وذكر في هذه الآية أن الأرض خلقت قبل السماء؟ الجواب عن هذا أن يقال: خَلق الأرضَ قبل السماء، وهي ربوة حمراء في موضع الكعبة. فلمّا خلق السماء، بسط الأرض بعد خلق السماء. فذلك قوله تعالى: "وَ?لأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـ?هَا" أي بسطها)). اهـ
وقال أبو حيان في تفسيره لهذه الآية: ((والذي تدل عليه هذه الآية أن خَلْقَ ما في الأرض لنا متقدمٌ على تسوية السماء سبعاً لا غير. والمختارُ أن جرم الأرض خُلِقَ قبل السماء، وخُلقت السماء بعدها، ثم دُحيت الأرض بعد خَلْق السماء. وبهذا يحتمل الجمع بين الآيات)). اهـ
وقال ابن جزي الغرناطي في تفسير هذه الآية: ((هذه الآية تقتضي أنه خلق السماء بعد الأرض، وقوله: "وَ?لأَرْضَ بَعْدَ ذَ?لِكَ دَحَاهَا" ظاهره خلاف ذلك. والجواب من وجهين: أحدهما: أن الأرض خلقت قبل السماء، ودحيت بعد ذلك فلا تعارض. والآخر: تكون ثم لترتيب الأخبار)). اهـ
فأنتَ ترى أن الخلاف إنما وقع في تقسيم أيام الخلق: لأنّ هناك مَن رأى أنّ مَدَّ الأرضِ وإخراجَ الماء والمرعى وتثبيتَ الجبال داخلٌ في أيام خلق الأرض، وهو قول ابن عباس ومَن قال به بعدَه. وأمّا مَن أخرج الدحوَ مِن أيام خلق الأرض، فاستند إلى ظاهر القرآن.
قال ابن الجوزي في تفسيره (البقرة 29): ((واختلفوا في كيفية تكميل خلق الأرض وما فيها، فقال ابن عبَّاس: بدأ بخلق الأرض في يومين، ثم خلق السماوات في يومين، وقدر فيها أقواتها في يومين. وقال الحسن ومجاهد: جمع خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام متوالية، ثم خلق السماء في يومين)). اهـ
فعُلِم أن الإشكال في أن ابن عباس جعلَ خلق السماءِ واقعاً بين خلق الأرض وبين دحوها. يقول ابن عباس: ((وخلقَ الأرضَ في يومين، ثم خلق السماء. ثم استوى إلى السماء، فسواهن في يومين آخرين. ثم دحا الأرض - ودحوُها: أن أخرج منها الماء والمرعى - وخلق الجبال والجمال والآكام وما بينهما في يومين آخرين. فذلك قوله "دحاها" وقوله "خلق الأرض في يومين". فجُعِلَت الأرضُ وما فيها مِن شيءٍ في أربعة أيام، وخُلقت السموات في يومين)). اهـ
فقوله: ((وخلقَ الأرضَ في يومين، ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء)) يفيد أنَّ خَلْقَ السماء كان بعد يومين مِن خلق الأرض، واستخدَمَ "ثُمّ" للترتيب كما هو صريح كلامه. لكنّ هذا يردّه قوله تعالى (في أربعة أيامٍ سواءً للسائلين ثم استوى إلى السماء) وقوله (ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء) فهو صريحٌ في تمام الأيام الأربعة قبل الاستواء إلى السماء. فالله يقول: في أربعة أيامٍ ثُمّ، ويقول ابن عباس: في يومين ثُمّ. فلا نتكلَّفُ في توجيه معاني القرآن لأجل اجتهاد صحابيّ، لا سيّما وأنّ هناك مَن خالفه فيما قال.
مِن هنا أستغربُ أيضاً قولك حفظك الله: ((العلماء كلهم على خلاف ما ذكرت، فإن عامتهم على أن خلق الأقوات كان بعد خلق السماء، وإذا لم يكونوا كلهم فلا أقل من أن يكونوا الجمهور، وإذا كان المخالف لك هو الجمهور فلا أظنك ما زلت مصراً على أن من خالفك قد خالفوا أمراً مقطوعاً به منصوصاً عليه في صريح القرآن)). اهـ
فالقضية إذن هو استعظامك ردّ كلام ابن عباس، حتى ولو أدّى ذلك إلى إخضاع معاني القرآن لكلامه! وأنت تعلم أن اجتهاد الصحابيّ إذا خولف فيه فليس بحُجّة.
وقولي الذي أشرتَ إليه "ولو صحّ ما يُروى عن ابن عباس، فهو اجتهاد خاطئ مخالف لنصّ القرآن" ورأيتَ فيه جرأة مفرطة، فسأتناوله في ردّي التالي إن شاء الله تعالى.
¥