السماع. فقال يحيى: "لا شيء! كلّه ضعيف، إنما هو كتابٌ دفعه إليه". اهـ فأنا لم أتكلَّم في حكم الإجازة والوجادة في المطلق كما أشرتَ في ردّك، بل في حالة ابن جريج وهو مدلِّس لا يُقبَل مِنه إلاّ ما صرَّح فيه بالسماع عن شيخه.
وأمّا إطلاقي الوضع على هذا الحديث فلم يكنّ تهوّراً، إذ ليس له أصل يرجع إليه ناهيك عن مخالفته للقرآن بل وللإسرائيليات وراويه كذاب. قال الذهبي: ((الحديث الموضوع ما كان متنُه مخالفاً للقواعد، وراويه كذاباً)). اهـ وكلا الأمرين متحقّقٌ هنا.
والمخالفة كما قد تكون للقرآن كذلك قد تكون للأحاديث الصحيحة، كحديث موت النبيّ صلى الله عليه وسلّم مسموماً فهو مخالفٌ لحديث شاة خيبر الذي أخرجه البخاريّ ومسلم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال للمرأة اليهودية: ((ما كان الله ليسلّطكِ على ذلك))! وفي حديث أبي هريرة أنّ المرأة قالت: ((وإن كنتَ نبياً لم يضرّك)). ولم يضرّه السمّ بأبي هو وأمّي، بل عَصَمَه الله وحماه. فلابد مِن إعمال الترجيح هنا، لأنه لا يمكن الجمع بين الخبر ونقيضه.
وبالنظر إلى سند الحديث نجد أنّ البخاريّ أورده معلَّقاً فقال: "وقال يونس عن الزهري: قال عروة: قالت عائشة"، فهو ليس على شرطه في الصحيح. وقد تفرّد برفعه عنبسة بن خالد، والبخاريّ لا يُخرج له منفرداً بل مقروناً بغيره. وقد اختُلف عن الزهريّ في هذا الحديث: فأرسله موسى بن عقبة عنه، وقال في آخره: ((وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي توفي فيه، فقال: "ما زلت أجد مِن الأكلة التي أكلت مِن الشاة يوم خيبر عدداً، حتى كان هذا أوان انقطع الأبهر منّي")). ورَفَعَه عنبسة عن يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة. قال ابن حجر (الفتح 8/ 131): ((وقال البزار: "تفرد به عنبسة عن يونس" أي بوصله. وإلا فقد رواه موسى بن عقبة في المغازي عن الزهري، لكنه أرسله)). اهـ
وأمّا حديث طواف سليمان على نسائه، فقد عَرَضتُ ما استُشكل عليَّ فيه ولم أقفْ بعدُ على جوابٍ شافٍ على ما أميل إليه. نعم عرضتُ استشكالاً عقلياً وهو: أنّ ليلةً واحدةً ولو طالت مِن المغرب إلى الفجر غير كفيلة بوطء تسعين امرأة! فالإشكال هنا هو في تخصيص زمان الوطء بأنه حصل في ليلة واحدة بقوله: ((لأطوفنّ الليلة)). ومع ذلك، فلم ينصبّ كلامي فقط على هذا الإشكال، بل عَرَضتُ لغيره مِن النقاط مِثل اختلاف الرواة فيما بينهم. فقد اختلفوا في رفع الحديث ووقفه عن أبي هريرة، واختلفوا في تعيين عدد النساء، واختلفوا في آخر الحديث وساقوه بالمعنى. فهذه عِللٌ موجودة في سند الحديث ومتنه، والجوابُ عنها لا ينفي وجودها.
وأما إعلال ما لم يعلّه أحد السابقين
هل اعتراضك متوجّه إلى المبدأ في حدّ ذاته أم إلى التطبيق الفعليّ؟ إنْ كان إلى المبدأ، فقد قال ابنُ المدينيّ: ((ربما أدركتُ علّة حديث بعد أربعين سنة)). فطوال أربعين سنّة قد يحكم لحديثٍ ما بالصحة، ويتبيّن له غير ذلك بعد هذا الزمن البعيد! كما قال الخطيب البغدادي: ((فمن الأحاديث ما تخفى علّته، فلا يوقف عليها إلاّ بعد النظر الشديد ومضيّ الزمن البعيد)). بل قد يموت العالم دون أن يدرك علل بعض الأحاديث ويأتي بعده مَن يقف عليها، كما قال ابن حجر: ((قد يخفى على الحفاظ بعض العلل في الحديث، فيحكم له بالصحّة بمقتضى ما ظهر له. ويطلع عليها غيره، فيردّ بها الخبر)).
فعدم وقوفِ أحدٍ مِن العلماء على علّة حديثٍ ليس شرطاً مِن شروط الصحّة، كما أنه ليس مانعاً مِن موانع الإعلال، بل العِبرة بوجود العِلّة والوقوف عليها. وقد تكون العلّة ظاهرةً – كتعارض الرفع والوقف – ولكن ترجَّح لدى هذا الإمام أنها غير قادحة، وهذا الترجيح ليس حُجّة لأنه قد يترجّح لغيره غيرُ ما ترجّح له. ولذلك اختلفت أحكام العلماء على الأحاديث تصحيحاً وتضعيفاً.
وأما الكلام في أحاديث بالصحيحين
فقد تكلّم عدد مِن الأئمة في عدد من هذه الأحاديث، ولم يكن نقدهم هذا طعناً في الشيخين ولا في كتابيهما بل كان إعمالاً لقواعد هذا الفنّ وتطبيقاً لأقوال أئمة النقد. وقد يكون الصواب مع الشيخين في تصحيحهما هذه الأحاديث، وقد يكون مع هؤلاء الأئمة. وإذا كنتَ على مذهب ابن الصلاح في قطعية جميع أحاديث الصحيحين، فأنا أميل إلى ما مال إليه جمهور العلماء قبله وأحسبه مذهباً قوياً، وهو المذهب الذي قال عنه ابن الصلاح: ((وقد كنتُ أميلُ إلى أنّ ما اتفقا عليه فهو مظنون، وأحسبه مذهباً قوياً)). اهـ وقد خالف النوويُّ ابنَ الصلاح في مسألة قطعية أحاديث الصحيحين، فقال بعد أن أورد كلامه: ((وهذا الذي ذكره الشيخ في هذه المواضع خلاف ما قاله المحققون والأكثرون، فإنهم قالوا: أحاديث الصحيحين التي ليست بمتواترة إنما تفيد الظنّ فإنها آحاد، والآحاد إنما تفيد الظنّ كما تقرر. ولا فرق بين البخاريّ ومسلم وغيرهما في ذلك)). اهـ فإذا كنتُ أرى هذا الرأي، فلماذا تصفُ كلامي في أحاديث بعينها بأنها طعن في الصحيحين!
أسأل الله أن يغفر لنا زلاتنا وأن يقيل عثراتنا وألاّ يآخذنا إن نسينا أو أخطأنا. والله مِن وراء القصد.
وكتبه أخوك الأصغر أقلّ عباد الله شأناً: أحمد الأقطش عفا الله عنه وعن أبيه.