تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

بالرغم مِن اختلافي معك في عدّة نقاط، إلا أنّ اهتمامك بالردّ علي أخيك الأصغر والشفقةَ عليه يزيدني إكباراً وإجلالاً لا. ومع حدّتك - وغيرِك - في الردّ عليّ، إلا أنّني أعتزّ بغيرتك على سنّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وإنّني لستُ كما تظنّ بأنني مغرمٌ بـ "الطعن" في الصحيحين، أو متشبّعٌ بشبهات العقلانيين والعصرانيين ... إلخ.

وفي ردّك الموسَّع عليَّ هنا أستطيع أن ألمس النقاط التي تأخذها على منهجي في التعامل مع الأحاديث، وعلى رأسها: نقد المتون من حيث مخالفتها للقرآن والسنة الصحيحة والعقل، إضافةً إلى إعلال أحاديث لم يأتِ عن أحدٍ مِن الأئمة إعلالها، وكذا الكلام في علل أحاديث بالصحيحين.

فيما يتعلق بنقد المتون

هل اعتراضك متوجّه إلى المبدأ في حدّ ذاته أم إلى التطبيق الفعليّ؟ إنْ كان إلى المبدأ - وما إخالك تقول هذا - فقد قال الخطيب البغداديّ مِن قبلُ (الكفاية ص432): ((ولا يُقبل خبر الواحد في منافاة حكم العقل، وحكم القرآن الثابت المحكم، والسنةالمعلومة، والفعل الجاري مجرى السنة، وكلّ دليل مقطوع به. وإنما يُقبل به فيما لا يُقطع به ممّا يجوز ورود التعبد به، كالأحكام التي تقدم ذكرنا لها وما أشبهها مما لم نذكره)). اهـ

وأمّا فعلياً فقد ردَّ الإسماعيليُّ وغيره حديث ملاقاة إبراهيم لأبيه يوم القيامة الذي أخرجه البخاريّ لمخالفته صريح القرآن. قال ابن حجر (الفتح 8/ 500): ((وقد استشكل الإسماعيليّ هذا الحديث مِن أصله وطعن في صحته، فقال بعد أن أخرجه: "هذا خبرٌ في صحته نظرٌ مِن جهة أنّ إبراهيم علم أنّ الله لا يُخلف الميعاد، فكيف يجعل ما صار لأبيه خزياً مع علمه بذلك؟ ". وقال غيره: "هذا الحديث مخالفٌ لظاهر قوله تعالى {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعده وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه} " انتهى)). اهـ فهذا نقدٌ صريحٌ للمتن، وردَّ الحديثَ أيضاً الطبريّ وابن عطية وأبو حيان وجعلوه مِن كلام سعيد بن جبير. والإشكال هنا واضح: كيف يشفع إبراهيم لأبيه يوم القيامة كي يُدخله الجنة، وهو قد تبرّأ منه في الدنيا وعلم أنه عدوّ لله؟!

وبالنظر إلى أسانيد الحديث نجد أنّ البخاريّ أخرجه موصولاً عن إسماعيل بن أبي أويس، ومعلَّقاً عن إبراهيم بن طهمان. والكلام في إسماعيل معروف، وطريق ابن طهمان منقطع لأنه لا يروي عن ابن أبي ذئب. وللحديث طريق آخر عن حماد بن سلمة دون ذِكر اسم إبراهيم عليه السلام، وكذا عن قتادة مسنداً ومرسلاً. والحديث محفوظ عن سعيد بن جبير موقوفاً عليه، فبانت العلّة.

ومِثله حديث خلق التربة لم يتكلّم فيه العلماء إلاّ لمخالفة متنِه صريحَ القرآن في قضية الخلق، وعلى هذا أعلّه ابنُ القيم حين قال (المنار المنيف ص62): ((ويشبه هذا ما وقع فيه الغلط في حديث أبي هريرة: "خلق الله التربة يوم السبت" الحديث، وهو في صحيح مسلم. ولكن وقع فيه الغلط في رفعه، وإنما هو مِن قول كعب الأحبار. كذلك قال إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاريّ في تاريخه الكبير، وقاله غيره من علماء المسلمين أيضاً. وهو كما قالوا، لأنّ الله أخبر أنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وهذا الحديث يقتضي أنّ مدّة التخليق سبعة أيام)). اهـ ولكنّ نِسبة هذا الحديث إلى كعب لا تصحّ، ففضلاً عن عدم وجود هذه الرواية عن كعب، فإنّ المحفوظ عن رواة الإسرائيليات أنّ أول الخلق كان يوم الأحد لا السبت. فالحديث مخالف للقرآن وللإسرائيليات جميعاً!

وبالنظر إلى سند الحديث نجد أنه لا يُعرَف إلاّ عن ابن جريج وإبراهيم بن أبي يحيى، وذهبَ ابنُ المديني إلى أنّ هذا الحديث مأخوذ عن ابن أبي يحيى وجعل الحمل فيه على إسماعيل بن أمية. وقد وافقتُه على أنّ هذا حديثُ ابن أبي يحيى، ولكنّي ذهبتُ إلى أنّ الذي أخذه عنه ليس إسماعيل بن أمية - فهو لا يروي عن ابن أبي يحيى - بل ابن جريج لأنه معروفٌ بالأخذ عنه وتدليسه أيضاً. وكلامي عن صيغة "أخبرني" التي كان يستخدمها ابن جريج في الإجازة والوجادة لم آتِ به مِن كيسي، بل نبَّه عليها يحيى بن سعيد أنّ ابن جريج إذا قال "أخبرني" فهو ليس سماعاً بل قراءة. ولذلك لمَّا سأل ابنُ المدينيّ يحيى بن سعيد عن أحاديث ابن جريج عن عطاء الخراساني وضعّفها، قال ابنُ المديني: "إنه يقول: أخبرني"! يعني أنّ حديثه محمول على

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير