وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ:25 - 26].
5ـ عدم تتبع الأخطاء الناتجة عن الانفعال أثناء الحوار: يدعو القرآن الكريم المتحاورين على أن لا يُتَابَعَ أحدهم الآخر على ما بدر من إساءات أثناء الحوار، وليكن العفو والصبر أساساً وخلقاً في التعامل ولاسيّما مع الجاهلين [ينظر: أسلوب المحاورة: 53]: {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، {اصبر على ما يقولون} [طه: 130، ص:17]، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنتَظِرُونَ} [السجدة:30]، {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إلاّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم:29] {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً} [المزمل:10].
6ـ ختم الحوار بهدوء: إذا سار الحوار جادَّاً وفق هذا المنهج من قبل جميع الأطراف؛ فلا بد أن يصلوا جميعاً إلى ما التزموا به في بداية الحوار من الرجوع إلى الحق وتأييد الصواب، فإذا رفض المحاور الحجج العقلية كأن لم يقتنع بها؛ فإنه بذلك يمارس حقاً أصيلاً كَفِلَه له رب العزة، وسيكون مسئولاً عن ذلك أمام الله تعالى. وفي هذه الحالة ينتهي الحوار بهدوء كما بدأ دون حاجة إلى التوتر والانفعال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} [هود:35]، {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:5].
ثانياً: منهج القرآن العظيم تجاه الخصم: من الأمور البارزة التي عني بها القرآن الكريم وأولاها اهتماماً كبيراً , هي عدم مصادرة حق الخصم وإنصافه من كل وجهٍ , .. وكيف يمكن ذلك؟ هذا ما سأتطرّق إليه فيما يأتي ..
1ـ التسليم بإمكانية صواب الخصم: ولا بد لانطلاق الحوار من التسليم الجدلي بأنَّ الخصم قد يكون على حق، فبعد مناقشة طويلة في الأدلة على وحدانية الله تأتي هذه الآية: {قلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاوَاتِ والأرض قُلْ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]، فطرفا الحوار سواء في الهداية أو الضلال، ثم يضيف على الفور في تنازل كبير بغية حمل الطرف الآخر على القبول بالحوار: {قلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا ولا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُون} [سبأ: 25]، فيجعل اختياره هو بمرتبة الاجرام على الرغم من أنه هو الصواب، ولا يصف اختيار الخصم بغير مجرد العمل، ليقرر في النهاية أن الحكم النهائي لله: {قلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ: 26].
2ـ حماية الخصم أثناء الحوار: فمهما يبلغ الشخص المحاور من ضعف في رأيه او في شخصيّته أو ركاكة حجته نجد الخصم في محاورة القرآن الكريم مصوناً من أيّ أذى أو تسفيه أو تحقير أو سخرية أو بذاءة أو فحش قال تعالى: {لا يَسْخرْ قوْمٌ مِنْ قوْم} [الحجرات:11] .. حتى يصدر الحكم عليه.
3ـ إظهار المساواة للخصم: وهذه أرفع درجة من سابقها , إذ نلحظ من محاورات القرآن الكريم إشعار الخصم بمساواته مع محاوره وبكل وضوح أثناء المحاورة , وهذا اٌقصى ما يمكن من عدالةٍ تُمنح للخصوم حين يشعر الخصم أنّه مساو ٍلخصمهِ , على الرّغم من أنّ الملابسات كلها توحي بغير هذه المساواة , قال تعالى: {قلْ ربّي أعلمُ مَنْ جآءَ بالهُدَى وَمَنْ هُوَ في ضلال مُبين ٍ} [القصص:85] , {وَإنّا أو إيّاكمْ لعَلى هُدىً أوْ في ضلال ٍمبين ٍ} [سبأ:24] وبالتأكيد أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم على حق ومجادليه على باطل , بيدَ أنّ الله تعالى أراد أن يوجّه نبيّه إلى افتراض التجرّد من ذلك وإشعار الخصم بالمساواة معه في صورة افتراض أنّه لا يعلم أيّهما على الهدى أو الضلال.
4ـ التعهد والالتزام بالحق: وهذا لا يكفي مجرد التسليم الجدلي بإمكانية صواب الخصم، بل لا بد من التعهد والالتزام باتباع الحق إن ظهر على يديه، حتى ولو كان التعهد بإتباع ما هو باطل أو خرافة إذا افتُرِض ثمّ ثبت وتبين أنه حق: {قلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81].
5ـ الرّفق بالمهزوم: عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: (من يحرم الرّفق يحرم الخير كله) [رواه مسلم: باب: (البر) , وابو داود: باب: (الأدب)]. وإذا ما قرأنا القرآن وتتبعنا محاوراته لم نجد فيه محاورةً واحدةً أخذت المنتصر فيها نشوة الانتصار فحملته على الكبرياء والنّيل من شخصية الخصم نفسه أو الاستهزاء به أو السطو عليه , بل يرفق دائماً بالخصم ويحميه من كلّ أذى حتى تنتهي المحاورة ثمّ تعلن النّتيجة؛ وذلك لأنّ نتائج محاورات القرآن هي الدّعوة إلى الدّين نفسه , أمّا الخصم ذاته فنجد أنّ محاور القرآن لا تهدف إلى النّيل منه أو إيذائه حتى بعد إعلان خطئه وسوء موقفه خلال المحاورة ... وآخر دعوانا أن الحمدُ للهِ ربّ العالمين َ.
د. أحمد عبد الكريم شوكه الكبيسي
أستاذ القراءات المساعد في كلية الآداب / جامعة اب- اليمن