تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

المطلوب إيمانٌ ثابتٌ في حالتيِّ النعماء والبلاء. ولا بدَّ من حصول الألم لكل نفسٍ مؤمنةٍ أو كافرة؛ لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا أكثر شدة .. ثم ينقطع، ويعقبه أعظم لذة. والعكس للكافر! وهكذا حال الذين يتبعون الشهوات؛ فيتلذذون بها ابتداءً ثم تعقبها الآلام بحسب ما نالوا منها.

وهذا الثبات لا يقع إلا لمن جاهد نفسه والشيطانَ والهوى؛ وذلك ما أشار إليه جلَّ وعلا في قوله في الآية الخامسة: ((ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين)):

يعني أن هذه الفتن تحتاج منا مجاهدة، ونتاج هذه المجاهدة عائد علينا؛ لأن الله غنيٌّ عن العالمين جميعًا -ولكن هذا لا يعني أن الله لا يفرح بتوبة العبد! أو أنه لايرضى عن العبد إذا رأى طاعته: ((ولا يرضى لعباده الكفر))؛ لكنه غنيٌّ في نفسه، ونحن فقراء بكل الوجوه إليه-. إذن فالقضية أن المصلحة لي أولاً وأخيرًا.

هذه السورة تصور الجهاد؛ جهاد النفس والهوى والشيطان. والجهاد من اسمه: أقصى جهد يبذله الإنسان؛ لأن الإنسان يعترك فيه مع نفسه بقوة.

ثم قال الله -عز وجل- بعد آيات: ((ووصينا الإنسان بوالديه حسناً وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علمٌ فلا تطعهما ... ))

أيضًا جهاد!! حتى مع الوالدين. لذلك قال العلماء: نزلت هذه الآيات في سعد بن أبي وقاص لما أسلم فقالت له أُمه: والله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح ولا آكل ولا أشرب حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.

الأمر يحتاج لجهاد كبير, كيف يستطيع أن يجمع بين إحسانٍ لهما وهما يأمرانه بالمعصية وبين طاعتهما لأن الله أمر بطاعتهما؟

ثم بعد بضع آيات يذكر -سبحانه- قصة نوح، ويذكر فيها حدثًا معينًا فيقول: ((ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا فأخذهم الطوفان وهم ظالمون)).

سبحان الله!! لم ذكر الله_بالذات من القصة_ عدد سنوات دعوته؟؟ تسع مئة وخمسون سنة وهو يجاهد في هذه الدعوة! وما استجاب له إلا القليل! زوجه وابنه لم يؤمنوا! وهل أنتم متصورون كيف كانت دعوة نوح؟! ((قال ربِّ إني دعوت قومي ليلاً ونهارًا (5) فلم يزدهم دعائي إلا فرارًا (6) وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا (7) ثم إني دعوتهم جهارا (8) ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا)) [نوح:5 - 9].

ثم يذكر تعالى قصة إبراهيم عليه الصلاة السلام: ((وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ... )) ويطيل الكلام عنها في صفحة ونصف! وجهاد إبراهيم -عليه السلام- مع من؟ مع أبيه! ومع قومه, ومع النمرود, ومع نفسه ...

قال سبحانه في سورة البقرة: ((وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلماتٍ)) أي: بأمور كثيرة، ((فأتمَّهن)): قام بالمطلوب كما هو. تأمَّل: هنا ابتلاء أيضًا! وابتلاء حين صبر على حرمان الابن، ثم حين أُمر بتركه وأمه في وادٍ غير ذي زرع، ثم يؤمر بقتله بعد أن شبَّ وتغلغل حبه في قلبه ((أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون))؟!!

ثم قصة لوط: ((ولوطًا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحدٍ من العالمين))، قصة نبي الله الذي لم يكن في قريته (سدوم) غير بيتٍ واحد من المسلمين ((فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين (35) فما وجدنا فيها غير بيتٍ من المسلمين (36)) [الذاريات:35 - 36].

ثم قصة شعيب: ((وإلى مدين أخاهم شعيبا ... )).

ثم بعد عدة آيات يقول تبارك وتعالى: ((يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعةٌ فإياي فاعبدون)) وانظر للربط بين أول السورة وآخرها: إن لم تستطع المجاهدة في أرضك، وضاق عليك فيها أن تعبد الله كما أمرك، فلا تضَق ذرعًا؛ إذا ضاق عليك البيت فاعبده -تعالى- في الجامعة، في مكان العمل، في السيارة ... ؛ فأرض الله واسعة! لأن علة الأمر بالهجرة هي تمكينهم من إظهار التوحيد وإقامة الدين.

لذلك استنبط بعض العلماء من هذه الآية ومما ذكر في قصة نوح أن هذه السورة آخر ما نزل في مكة، لِمَ؟ قالوا: إن فيها إشارات إلى الهجرة: في هذه الآية إشارة واضحة، وفي قصة نوح: ((فلبث فيهم ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا)) = فيا نبي الله لا تستكثر ثلاث عشرة سنة مكثتها في قومك.

بعد ذلك يقول: ((كل نفسٍ ذائقة الموت)) يا الله! ما سرُّ هذه الآية في هذه السورة؟

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير