قال أبو علي التنوخي: حدثني أبو الحسن أحمد بن محمد الأخباري قال: حدثني أبو الفرج الأصبهاني قال: أخبرني الحسن بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني عبد الله بن جعفر الوكيل قال: كنت يوماً عند إبراهيم بن المدبر فرأيت بين يديه رقعة يردد النظر إليها فقلت له: ما شأن هذه الرقعة؟ كأنه استعجم عليك شيء منه؟ فقال: هذه رقعة أبي عثمان الجاحظ، وكلامه يعجبني وأنا أردده على نفسي لشدة إعجابي. فقلت: هل يجوز أن أقرأها؟ قال: نعم وألقاها إلي فإذا فيها: ما ضاء لي نهار ولا دجا ليل مذ فارقتك، إلا وجدت الشوق إليك قد حز في كبدي، والأسف عليك قد أسقط في يدي، والنزاع نحوك قد خان جلدي، فأنا بين حشاً خافقة ودمعة مهراقة، ونفس قد ذبلت بما تجاهد، وجوانح قد أبليت بما
تكابد، وذكرت وأنا على فراش الارتماض ممنوع من لذة الإغماض قول بشار:
إذا هتف القمري نازعني الهوى = بشوق فلم أملك دموعي من الوجد
أبى الله إلا أن يفرق بيننا = وكنا كماء المزن شيب مع الشهد
لقد كان ما بيني زماناً وبينها = كما كان بين المسك والعنبر الورد
فانتظم وصف ما كنا نتعاشر عليه، ونجري في مودتنا إليه في شعره هذا، وذكرت أيضاً ما رماني به الدهر من فرقة أعزائي من إخواني الذين أنت أعزهم، ويمتحنني بمن نأى من أحبائي وخلصاني الذين أنت أحبهم وأخلصهم، ويجرعنيه من مرارة نأيهم وبعد لقائهم، وسألت الله أن يقرن آيات سروري بالقرب منك، ولين عيشي بسرعة أوبتك، وقلت أبياتاً تقصر عن صفة وجدي، وكنه ما يتضمنه قلبي، وهي:
بخدي من قطر الدموع ندوب = وبالقلب مني مذ نأيت وجيب
ولي نفس حتى الدجى يصدع الحشا = ورجع حنين للفؤاد مذيب
ولي شاهد من ضر نفسي وسقمه = يخبر عني أنني لكئيب
كأني لم أفجع بفرقة صاحب = ولا غاب عن عيني سواك حبيب
فقلت لابن المدبر: هذه رقعة عاشق لا رقعة خادم، ورقعة غائب لا رقعة حاضر. فضحك وقال: نحن ننبسط مع أبي عثمان إلى ما هو أرق من هذا وألطف، فأما الغيبة فإننا نجتمع في كل ثلاثة أيام وتأخر ذلك لشغل عرض لي فخاطبني مخاطبة الغائب، وأقام انقطاع المدة مقام الغيبة.
قال الجاحظ: كان يأتيني رجل فصيح من العجم قال: فقلت له: هذه الفصاحة وهذا البيان لو ادعيت في قبيلة من العرب لكنت لا تنازع فيها. قال: فأجابني إلى ذلك، فجعلت أحفظه نسباً حتى حفظه وهذه هذا. فقلت له: الآن لا تته علينا. فقال: سبحان الله. إن فعلت ذلك فأنا إذاً دعي.:)
ومن كلام الجاحظ يصف البلاغة: ومتى شاكل - أبقاك الله - اللفظ معناه وكان لذلك الحال وفقاً ولذلك القدر لفقاً وخرج من سماجة الاستكراه وسلم من فساد التكلف، كان قمناً بحسن الموقع، وحقيقاً بانتفاع المستمع، وجديراً أن يمنع جانبه من تأول الطاعنين، ويحمي عرضه من اعتراض العائبين، ولا يزال القلوب به معمورة، والصدور به مأهولة، ومتى كان اللفظ أيضاً كريماً في نفسه متخيراً من جنسه، وكان سليماً من الفضول بريئاً من التعقيد حبب إلى النفوس، واتصل بالأذهان والتحم بالعقول، وهشت له الأسماع، وارتاحت له القلوب، وخف على ألسن الرواة، وشاع في الآفاق ذكره، وعظم في الناس خطره، وصار ذلك مادة للعالم الرئيس، ورياضة للمتعلم الريض ومن أعاره من معرفته نصيباً، وأفرغ عليه من محبته ذنوباً، حبب إليه المعاني وسلس له نظام اللفظ، وكان قد أغنى المستمع عن كد
التكلف، وأراح قارئ الكتاب من علاج التفهم.
وقرأت بخط أبي حيان التوحيدي من كتابه الذي ألفه في تقريظ الجاحظ. وحدثنا أبو سعيد السيرافي - وهمك من رجل، وناهيك - من عالم، وشرعك من صدوق - قال: حدثنا جماعة من الصابئين الكتاب: أن ثابت بن قرة قال: ما أحسد هذه الأمة العربية إلا على ثلاثة أنفس فإنه:
عقم النساء فلا يلدن شبيهه = إن النساء بمثله عقم
¥