قال المرزباني: وحدث أبو الحسن الأنصاري، حدثني الجاحظ قال: كان رجل من أهل السواد تشيع وكان ظريفاً، فقال ابن عم له: بلغني أنك تبغض علياً عليه السلام، ووالله لو فعلت لتردن علية الحوض يوم القيامة ولا يسقيك. قال: والحوض في يده يوم القيامة؟ قال نعم. قال: وما لهذا الرجل الفاضل يقتل الناس في الدنيا بالسيف وفي الآخرة بالعطش؟ فقيل له: أتقول هذا مع تشيعك ودينك؟ قال: والله ما تركت النادرة لو قتلتني في الدنيا وأدخلتني النار في الآخرة.
وقال الجاحظ ينبغي للكاتب أن يكون رقيق حواشي اللسان، عذب ينابيع البيان، إذا حاور سدد سهم الصواب إلى غرض المعنى، لا يكلم العامة بكلام الخاصة، ولا الخاصة بكلام العامة.
وحدث المبرد قال: سمعت الجاحظ يقول: كل عشق يسمى حباً، وليس كل حب يسمى عشقاً، لأن العشق اسم لما فضل عن المحبة، كما أن السرف اسم لما جاوز الجود، والبخل اسم لما قصر عن الاقتصاد، والجبن اسم لما فضل عن شدة الاحتراس، والهوج اسم لما فضل عن الشجاعة.
وحدث ميمون بن هارون الكاتب عن الجاحظ قال: ذم رجل النبيذ فقال: من مثال به أن صاحبه يتكرهه قبل شربه، ويكلح وجهه عند شمه، ويستنقص الساقي من قدره، ويعتبر عليه مكياله، ويمزجه بالماء الذي هو ضده ليخرجه عن معناه وحده، ثم يكرعه على المبادرة ويعبه، ويتجرعه ولا يكاد يسيغه، ليقل مكثه في فيه، ويسرع على اللهوات اجتيازه، ثم لا يستوفي كليته ويرى أن يجعل عاقبة الشراب فضلة في قدحه، ويشاح الساقي في المناظرة على ما بقي منه عند رده، ليصرف عن نفسه عادية شربه، ويذهب بساعته ويمنع من تهوعه، كما يفعل بطبخ الغاريقون عند شربه وحب الاسطي خمول.
وكان الجاحظ يقول: إن تهيألك في الشاعر أن تبره وترضيه وإلا فاقتله.
وقال أبو العيناء أنشدني الجاحظ لنفسه:
يطيب العيش أن تلقى حليماً = غذاه العلم والرأي المصيب
ليكشف عنك حيلة كل ريب = وفضل العلم يعرفه الأريب
سقام الحرص ليس له شفاء = وداء البخل ليس له طبيب
وأنشد المبرد للجاحظ:
إن حال لون الرأس عن لونه = ففي خضاب الرأس مستمتع
هب من له شيب له حيلة = فما الذي يحتاله الأصلع
وحدث أبو العيناء قال: قال الجاحظ: كان الأصمعي مانوياً، فقال له العباس بن رستم: لا والله، ولكن نذكر حين جلست إليه تسأله، فجعل يأخذ نعله بيده وهي مخصوفة بحديد ويقول: نعم قناع القدري، فعلمت أنه يعنيك فقمت.
وحدث يحيى بن علي بن المنجم قال: قلت للجاحظ: مثلك في علمك ومقدارك في الادي يقول في كتاب البيان والتبيين: ويكره للجارية أن تشبه بالرجال في فصاحتها، ألا ترى إلى قول مالك بن أسماء الفزاري:
وحديث ألذه هو مما = ينعت الناعتون يوزن وزنا
منطق صائب وتلحن أحيا = ناً وخير الحديث ما كان لحنا
فتراه من لحن الأعراب، وإنما وصفها بالظرف والفطنة وإنما تلحن أي تورى في لفظها عن أشياء وتتنكب ما قصدت له، فقال: فطنت لذلك. قلت: فغيره. قال: فكيف لي بماسارت به الركبان؟ فهو في كتابه على خطئه.
قال أبو محلم: أراد الفزاري بقوله هذا، أن خير الحديث ما أومأت إلي به، وورت عن الإفصاح به لئلا يعلمه غيرنا، ومثله قول الكلابي:
لقد لحنت لكم لكيما تفهموا = ووحيت وحياً ليس بالمرتاب
ومنه قوله تعالى: (ولتعرفنهم في لحن القول)، أي فيما يتوحونه بينهم من النفاق والطعن.
قال المؤلف: وقد انتصر أبو حيان لهذا القول الذي اعترف الجاحظ بخطئه فيه فقال: وعندي أن المسألة محتملة للكلام، لأن مقابل المنطق الصائب المنطق الملحون، واللحن من الغواني والفتيات غير منكر ولا مكروه بل يستحب ذلك، لأنه بالتأنيث أشبه، وللشهوة أدعى، ومع الغزل أجرى، والإعراب جد، وليس الجد من التغزل والتعشق والتشاجي في شيء، وعلى مذهب علي بن يحيى؟ أن المنطق الصائب هو الكلام الصريح، وأن اللحن هو التعريض، وأنها تعرف هذا وهذا، فهب أن هذا المعنى مقبول، لم ينبغي أن يكون المعنى الآخر لهوجاً ومردوداً؟ وقد يجوز أن يكون مراد الشاعر ذاك، لأن الشاعر يشعر بهذا كما يشعر بهذا.
قال أبو العيناء: أنشدني الجاحظ لنفسه في إبراهيم بن رباح:
وعهدي به والله يصلح أمره = رحيب مجال الرأي منبلج الصدر
فلا جعل الله الولاية سبة = عليه فإني بالولاية ذو خبر
فقد جهدوه بالسؤال وقد أبى = به المجد إلا أن يلج ويستشري
¥