كلما ازدادوا شموساً = زادت الدنيا ظلاما
ثم عزل عن القضاء سنة تسع وستين بالقاضي عز الدين ابن الصايغ، ثم عزل ابن الصايغ بعد سبع سنين به، وقدم من مصر فدخل دخولاً لم يدخل غيره مثله من الاحتفال والزحمة وأصحاب البغال والشهود وكان يوماً مشهوداً وجلس في منصب حكمه وتكلم الشعراء. ولما قدم ابن خلكان إلى دمشق ثانياً وكان لثامن سنة قال رشيد الدين الفارقي في ذلك:
أنت في الشام مثل يوسف في مص = ر وعندي أن الكرام جناس
ولكل سبعٌ شدادٌ وبعد السبع = عامٌ يغاث فيه الناس
وقال سعد الدين الفارقي:
أذقت الشام سبع سنين جدباً = غداة هجرته هجراً جميلا
فلما زرته من أرض مصرٍ = مددت عليه من كفيك نيلا
وقال ابن جعوان:
لما تولى قضاء الشام حاكمه = قاضي القضاة أبو العباس ذو الكرم
من بعد سبعٍ شدادٍ قال خادمه = ذا العام فيه يغاث الناس بالنعم
وقال نور الدين ابن مصعب:
رأيت أهل الشام طراً = ما فيهم قط غير راض
نالهم الخير بعد شرّ = فالوقت بسطٌ بلا انقباض
وعوضوا فرحةً بحزنٍ = مذ أنصف الدهر في التقاضي
وسرهم بعد طول غمّ = قدوم قاضٍ وعزل قاض
فكلهم شاكرٌ وشاكٍ = بحال مستقبلٍ وماض
قلت: بيتا رشيد الدين الفارقي خير هذه المقاطيع. وكان كريماً جواداً ممدوحاً فيه ستر وحلم وعفو، وحكاياته في ذلك مشهورة. ثم عزل بابن الصايغ ودرس بالأمينية إلى أن مات عشية نهار السبت سادس عشرين شهر رجب سنة إحدى وثمانين وست مائة بالنجيبية جوار النورية وشيعه الخلائق.
أنشدني من لفظه لنفسه شهاب الدين أحمد بن غانم كاتب الإنشاء يرثي قاضي القضاة شمس الدين:
يا شمس العلوم في الثرى قد غابت = كم نبت عن الشمس وهي ما نابت
لم تأت بمثلك الليالي أبداً = إما قصرت عنه وإما هابت
وكان وجيه الدين محمد بن سويد صاحبه وكان يسومه قضاء أشغال كثيرة ويقضيها، فحضر في بعض الأيام ورام منه أمراً متعذراً فاعتذر، فقال: ما يكون الصاحب صاحباً حتى يعرق جبينه مع صاحبه في جهنم، فقال القاضي: بلى يا وجيه الدين، صرنا معك قشلمشا وما ترضى.
ويقال إنه عمل تاريخاً للملك الظاهر ووصل نسبه بجنكزخان، فلما وقف عليه قال: هذا يصلح أن يكون وزيراً، اطلبوه، فطلب وبلغ الخبر الصاحب بهاء الدين
ابن حنا فسعى في القضية إلى أن أبطل ذلك، وناسى السلطان عليه، فبقي في القاهرة يركب كل يوم ويقف في باب القرافة ويمشي قدام الصاحب إلى أن يوصله بيته وافتقر حتى لم يكن له غير البغلة لركوبه، وكان له عبد يعمل بابا ويطعمه، والشيخ بهاء الدين ابن النحاس يؤثره، ومع ذلك فلا يحنو عليه الصاحب ولا يحن إلى الإحسان إليه، حتى فاوضه الدوادار وقال له: إلى متى يبقى هذا على هذه الحالة؟ فجهز إلى مكانه بدمشق على القضاء. وحضر إليه وهو بالقاهرة عز الدين محمد بن شداد بكتب فقارس من الغور وانتقالها إلى الظاهر وقد ثبتت عليه بالشام وطلب منه الإشهاد عليه بما فيها لتثبت بمصر، قال: كيف أشهد علي؟ قال: يأذن لك قاضي القضاة ابن رزين. فقال: لو كنت مولياً ما كنت آذن له، أفأكون مولى من جهته، هذا لا يكون أبداً. واطلع الظاهر على ذلك فعظم عنده وتحقق شرف نفسه. وأمر له بدر الدين ببليك الخزندار تلك الأيام بألفي درهم ومائة إردب قمح فأبى من قبولها وتلطف معه مع القاصد، فقال: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها، ولم يقبل وأصر على الامتناع مع الفاقة الشديدة. وكان له ميلٌ إلى بعض أولاد الملوك وله فيه الأشعار الرائقة، يقال إنه أول يوم جاء إليه بسط له الطرحة وقال: ما عندي أعز من هذه، طأ عليها، ولما
فشا أمرهما وعله به أهله منعوه الركوب فقال:
يا سادتي إني قنعت وحقكم = في حبكم منكم بأيسر مطلب
إن لم تجودوا بالوصال تعطفاً = ورأيتم هجري وفرط تجنبي
لا تمنعوا عيني القريحة أن ترى =يوم الخميس جمالكم في الموكب
لو كنت تعلم يا حبيبي ما الذي = ألقاه من ألمٍ إذا لم تركب
لرحمتني ورثيت لي من حالةٍ = لولاك لم يك حملها من مذهبي
قسماً بوجهك وهو بدرٌ طالعٌ = وبليل طرتك التي كالغيهب
وبقامةٍ لك كالقضيب ركبت في = أخطارها في الحب أصعب مركب
وبطيب مبسمك الشهي البارد ال = عذب النمير اللؤلؤي الأشب
لو لم أكن في رتبة أرعى لها ال = عهد القديم صيانةً للمنصب
لهتكت ستري في هواك ولذ لي = خلع العذار ولو ألحّ مؤنبي
لكن خشيت بأن تقول عواذلي = قد جن هذا الشيخ في هذا الصبي
¥